على المخبز الكبير في الحارة، تتقدم امرأة ضخمة متشحة بالسواد، تغيب، تقتحم صفوف الرجال بجرأة (جان دارك)، تسحق الأطفال والنساء في طريقها قبل أن تصل إلى نافذة البيع، تستلم الكمية الكبيرة المخصصة لها، تفرشها على الرصيف (النظيف جداً) لتبريدها، تبيعها لأصحاب السيارات، ثم تعود أدراجها إلى النافذة لتكرار نفس المشهد في متوالية حسابية يعجز الخوارزمي عن فك رموزها وطلاسمها.
في المرات القليلة التي تجملت فيها بالصبر وقصدت المخبز لشراء الخبز ــ أحياناً أزوره لتعلم مهارات أخرى كالعراك ومشتقاته، اشتهيت أكثر من مرة أن يكون لدي دزينة من الأيدي، بعضها لحماية جيوبي من النشالين (المندسين) وبعضها لحماية رأسي من الضربات المفاجئة بأكواع المتسلقين على النافذة، وبعضها لسدّ أذني وتوقي أصوات الصراخ والضجيج، وبعضها للعراك وحالات الدفاع عن النفس، وبعضها للتمكن من الانسحاب في حالة النجاح في المهمة، فثقافة (الدور) والنظام على هذه المخابز اضمحلت وتراجعت أمام ثقافة البلطجة والمحسوبيات وثقافة باعة الخبز..!
رغم إضافة مخبزين حكوميين كبيرين ووجود أربعة أو خمسة مخابز خاصة في الحارة، لم يتغير المشهد، فالزحام والعراك والصراخ وأرتال باعة الخبز الذين يتزايدون بصورة مستفزة بات مشهداً يومياً يذكرنا بمسلسلات البيئة الشامية، وإذا ما جربتَ حظّك في خوض هذه التجربة، فقد تتحول خلال فترة وجيزة إلى (عكيد) أو (زكرتي) أو (قبضاي) الحارة..!
في آخر مرة زرت فيها المخبز (العظيم)، خرجت (مجعلك) الثياب أشعث الشعر، في حين كان حذائي وبنطالي ملطخين بالوحل، وفي قاموسي مصطلحات سوقية جديدة، وما إن وصلت إلى البيت حتى أطل مسؤول تمويني على التلفزيون وراح يشرح لنا تفاصيل (الدعم) المخصص لمادة الخبز وتكلفته الباهظة على خزينة الدولة، فاشتهيت لو أنه يزور المخبز لمرة واحدة ويحصل على مخصصاته كما يتعرض له المواطن كل يوم لدى حصوله على مخصصاته المدعومة..!
عبد الحليم سعود
التاريخ: الثلاثاء 4-2-2020
الرقم: 17184