الملحق الثقافي:سلام الفاضل:
بديع حقي هو الدكتور، والقاص، والروائي، والمبدع، والمنتمي، والحقوقي، والدبلوماسي؛ كانت حياته ما بين عامي 1922, و2000 حياةً مليئةً بكل إنجاز، حتى غدا قضيةً إنسانيةً أدبية علمية متكاملة.
شغل بديع حقي منصب سفير ووزير مفوض في عدد من بلدان العالم، فكان في تجواله مثالاً للمثقف الحقيقي الذي يذهب لينهل لغة، وينقل معارف تلك الأمة إلى لغته. كتب الرواية والمقالة، وكان مبدعاً غاية الإبداع في القصة القصيرة، تعلق بالقضية الفلسطينية فكان مخلصاً في أدبه القصصي للبيارات والبرتقال، ولعل مجموعته القصصية (التراب الحزين) هي أول مجموعة قصصية تُعرّف الطالب العربي إلى القضية الفلسطينية.
كرّمته ندوة الأربعاء الثقافية التي تقيمها وزارة الثقافة كونه قامة سورية أدبية مهمة، وقُدمت وقائع هذه الندوة في كتاب صدر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب حمل عنوان (بديع حقي… كاتب الموقف والكلمة الشعرية)، إعداد وتوثيق: د. إسماعيل مروة، ونزيه الخوري.
قراءة في قصصه
تأثر بديع حقي القاص في بداية حياته، كما رأت د. أماني محمد ناصر في محورها الذي تناولته خلال فعاليات هذه الندوة، تأثر بدمشق وأجوائها وجمال حاراتها وأشجارها وياسمينها وبيوتها،واعتمد في قصّه على الحوار بين الشخوص لإيصال فكرة معينة إلى القارئ، فتنوعت حواراته بين السخرية والألم والكوميديا، واستند في كل ذلك إلى لغة مليئة بالمشاعر والأحاسيس والحب، خلا فيها التكرار، حيث كان لكل شخصية لغتها الخاصة بها، ومعجم كلماتها وتراكيبها. كما امتازت تلك اللغة أيضاً بكونها واقعية، فهي تدهش من يطالعها بقدر ملامستها لواقع الفضاء القصصي، وتعبيرها عنه بما ينفخ الحياة في الراوي وشخصياته.
وفيما يتعلق بأبعاد الشخصيات في قصص بديع حقي، فقد بينت د. أماني أن شخوص قصصه تتنوع بين اللامبالاة والألم والحزن، والخوف والقلق والريبة، والحذر والترقب، والحب الذي أسبغه حقي على معظم شخوصه لما كان له من مكانة كبيرة في أدبه. أما الطبقات الاجتماعية التي كانت تتمحور حولها هذه القصص فقد تنوعت بين الفلاح كما في قصة (الزيتونة)، واللص المخادع كما في قصة (اللص والعكازة)، والرجل الغني الميسور، وغير ذلك؛ فبديع حقي، وعلى الرغم من أنه قد عاش حياته من دون معاناة شخصية، إلا أنه لم يتجاهل آلام الطبقة المسحوقة في المجتمع، فتعاطف مع المظلوم، والتمس عذراً للظالم، إذ اعتبره ضحية للمجتمع الذي ظلم.
فلسطينيات حقي
شغلت قضية فلسطين جزءاً من إبداعات د. بديع حقي، كما أكد أ. أيمن الحسن في محوره الذي تناوله في هذه الندوة، إذ أوضح الحسن أن د. بديع حقي كان يؤكد دائماً ضرورة العودة إلى الجذور، وكشف السبب الرئيسي لمعاناة الشعب الفلسطيني خصوصاً، والعربي عموماً، والتأكيد على جوهر الصراع. فمجموعته القصصية (التراب الحزين) التي أهداها إلى تراب فلسطين، لم يقصد فيها الطابع الحزين كما قال، ولا إثارة اليأس والتشاؤم لدى القارئ، بل أراد أن يضع يده على الجرح الذي خلفه الاستعمار البريطاني، ونكبة عام 1948.
فهذه المجموعة امتازت بالصدق في التصوير تعزيزاً لقيمة المقاومة، كما أنها لم تقتصر على الهم الفلسطيني وحده، بل تطرقت إلى قصص أخرى اجتماعية ووطنية تبرز الهمين الوطني والاجتماعي، وتقاطع الحدث السوري تحت نير الاحتلال الفرنسي بعد انطلاق الثورات السورية مع الحالة الفلسطينية المزرية في ظل نكبة عام 1948. إضافة إلى احتوائها موضوعات إنسانية، وتسليطها الضوء على شخوص من القاع الاجتماعي (كماسح أحذية، وطفل متسول،…) وسط أزمنة استثنائية موجعة بسبب الحوادث المرافقة.
الشجرة التي غرستها أمي
في سيرته الذاتية التي أسماها (الشجرة التي غرستها أمي)، والتي تعد من أكثر مؤلفات حقي قرباً إلى حنايا قلبه ومنازعه – على حد تعبيره – لاتصاله بذكرى أمه رحمها الله؛ يسرد بديع حقي، كما ذكر أ. غسان كلاس في محوره الذي تناوله في هذه الندوة، يسرد مذكراته التي تلقي الضوء على نصف قرن من تاريخ دمشق، حيث تبدو دمشق القديمة ببيوتها العريقة، وغوطتها الغناء، وبرداها الخالد، وعلاقات أهلها وناسها تضج حيوية وتألقاً.
في هذا الكتاب يسحر بديع حقي القارئ بأسلوبه الماتع، وكلماته المنتقاة، وجمله التي تحاكي الشعر رقة وعذوبة. حيث يتحدث في ثناياه عن العنادل، وطيور اليمام، وأشجار النارنج. ويصف ببراعة مشهودة حارات دمشق وأزقتها ودورها ودهاليزها. ويروي ما اختزنته ذاكرته من قصص وحكايات عن هذه المعالم وشموخها وعنفوانها.
همسات العكازة المسكينة
وفي المحور الأخير من محاور هذه الندوة يتحدث د. إسماعيل مروة عن رواية بديع حقي (همسات العكازة المسكينة)، حيث يوضح د. مروة أن الأديب حقي يبدأ روايته هذه بتمهيد بسيط يخبر فيه القارئ أن روايته تعتمد على أحداث واقعية عايشها بنفسه، ولم يضف إليها إلا ما تقتضي أمور الرواية من تنميق وتزويق.
ويرى د. مروة أن بديع حقي أضفى بهذه الطريقة مزيجاً من التشويق والترقب لقراءة الرواية بكثير من الفضول، كما يبين أن حقي كان في هذه الرواية منغمساً بآلام الطبقة المسحوقة ومعاناتها، وشقائها وأحزانها من عمال وفلاحين، وعميان وعاهرات. حيث تعاطف معهم، ولم يحكم عليهم، وهو فيها يجعل العكاز بطلاً رئيسياً عاصرت حمود، وكبرت معه، وعايشت جميع تفاصيل حياته التعيسة، من اللحظة التي فقد فيها نور عينيه نتيجة خطأ طبي ارتكبه حلاق الحي أبو اصطيف، وحتى اللحظة التي ارتكبت فيها جريمة الشرف بحق أخته.
يقع هذا الكتاب الذي خُتم بمختارات من أعمال بديع حقي في 128 صفحة من القطع الكبير.
التاريخ: الثلاثاء4-2-2020
رقم العدد : 985