ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
لم يكتف العرب هذه المرة بتسجيل سطور إضافية على دفاتر النكبة، كما جرت العادة كل عام، بل فيهم من يفتتح سجلاً جديداً يدوّن على صفحاته بأصابعه خطوط نكبة جديدة،
تلوح في الأفق، يعوّضون فيها على الصهيونية ما فشلت بتحقيقه على مدى خمسة وستين عاماً.
خطوط النكبة رسمت تجاعيدها في الذاكرة الجمعية، وباتت في الوجدان العربي على امتداد العقود الماضية محطة موازية لهموم أثقلت عليهم، لكنها لم تغادر أماكنها، ولم تبتعد يوماً عن حدود حضورها.
اليوم.. تبدأ الأعراب رحلة النكبات التي تمتد في القفر العربي من أقصاه إلى أدناه، ولا يكاد الفارق يصلح حتى للمحاججة على سطور تزيد هنا وتقل هناك، ولا تستطيع أن تغير في المعادلة القائمة، بقدر ما تكرّس واقع الحال الذي تلبّسها منذ وطئت أصابعها القاع العربي من داخله، وتمادت حتى أغرقت ما بقي من هوامش بصراعات التقاسم على أدوار مزيفة، وتصدّر مشاهد كاذبة تناقض الواقع وتعاكسه إلى حد الصدام به ومعه.
قد لا يكفي الألم العربي بكل ألوان الدم الذي يغرقه في طوفانه، حيثما تحرك وكيفما اتجه، ليحكي كل ما في الجعبة العربية من أهوال وصدمات مارست ساديتها بقسوة في تفاصيل الوضع العربي، ووضعت بين جنباته فواصل وتواريخ، وأضافت إلى قواميسه مفردات ومصطلحات تستبدل ما استقر منها طوال سنوات المحن، وتمحو ما عجزت آلة الفكر الصهيوني عن تغييبه.
في التفاصيل المركونة جانباً يحار زمن المشيخات من أي زاوية ينفذ إليها، ويحار أكثر في تفسيرها وفي الاستنتاج ولو كان افتراضياً، لكنه يغور داخل نفق البيع والشراء ولا يجد صعوبة في النفاذ لعرض بضاعته الرائجة هذه الايام، بعدما أفتت له الحاخامات بالجلوس على المقاعد الشاغرة في قطار تتعدد فيه عربات القحط العربي القادم على «صهوة» الاحتفاء الغربي وبين تلافيف «النشوة» الإسرائيلية!.
ما يزيد من مساحة العتمة في فراغات الظلمة العربية أن النكبة تحضر وقد جردتها فصاحة المشيخات من أوراقها وتفاصيل وجودها وجذور امتدادها، وهي تحاول أن تقلعها لتزرع مكانها سيلاً من النكبات العربية، التي لا تتوقف عند حدود البيع للقضية، ولا تتمهل أمام خطوات الانزياح الأعرابي باتجاه تسليم آخر المفاتيح، بل تلقي «خصال دونيتها» في بئر التبجح والمقامرة بالوجود، خارج هوامش المسموح لها، حتى لو كان من باب التمنيات وأضغاث الأحلام.
قد لا تصلح المقارنة، غير أن زمن العبور إلى الضفاف الملتبسة لم يعد سراً، ولا هو خارج المحاكاة الفعلية لكثير من الاصطفافات التي شرّعت أبوابها ونوافذها أمام سيل الانجراف في خلع ورقة التوت الأخيرة، لتبقى عوراتهم مركونة على قارعة المصادفة، والتي «تستبسل» في الإفصاح عن ذاتها ومكنوناتها، بعد أن دفعت بالحرج والإرباك خارجاً ولم يعد هناك ما يمكن أن يشعرها بالخجل.
ولم تبق النكبة وحيدة في سجل فلسطين، بل أخذت تسحب أوصافها وشروطها على نكبات عربية أطلت برأسها وما زال ذيلها ملتفاً خلف العباءات وربما داخلها، يحاكي فيها ما يستدرج زمناً آخر تطوي فيه النكبة دفاترها وصفحات الذاكرة المفرودة وتجمع بين مفرداتها ما هو خارج للتو من مطبخ الإسرائيليين ليقضم ما تبقى وليعلن فوزه بالضربة القاضية.
وحدها مفاتيح العودة لم يستطع أحد أن ينتزعها ولا تزال في قبضة الفلسطيني المؤمن بقضيته، ووحده بقي السوري واثقاً من خطوته ومتمسكاً بدوره وموقعه في مواجهة الحرب الكونية وتصفياتها النهائية، حتى لو اصطفت وفود «الحجيج» الأعرابي خلف الإسرائيلي أو بموازاته، ما دامت هذه الوفود سابقة له في الفعل وقاطرة الطعن في خاصرة العروبة وقضيتها، وقد سبق أن جربت وسبق لها أن فعلت, لكن لم يكتب لها يوماً أن تنجح.
في نكبات العرب المجتمعة اليوم على طاولة الأعراب، وفي الغرف المغلقة، ريثما تنتهي من وضع اللمسات الاخيرة عليها، يطل الضوء في آخر النفق ويستحضر الفلسطيني ومعه السوري واللبناني المقاوم ومن بقي معه من العرب، بذاكرته ووجدانه ذكرى النكبة على طريقته، وفي حدود طاقته التي تخوض مخاض الانبلاج لفجر لا يعترف ولا يقرّ إلا بما تصنعه الإرادة ولو بعد حين.
a.ka667@yahoo.com