الملحق الثقافي:لينه ياسين النويلاتي:
أمسك بالقلم.. أتحايل على انقطاع الكهرباء وأنا أصارع البرد مع أزرار الكمبيوتر الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بعد ساعة من تداعياته بين أصابعي فاقداً شحنه كما قوْته الأخير.
أعود للكتابة من جديد – لم أترك الكتابة يوماً – لكنني أعود لأمسك بالقلم ذاك الذي كان ملاذي لملء بياض الورق بكل ما تعتريه نفسي من شجون ومجتمعي من شؤون!
كم من التداعيات تمرّ بذاكرتي الآن.. الكتابة ذاك الرسم الجميل من الخطوط والكلمات المنمّقة الحبر، اختزالاً لفكرةٍ، أو شرحاً لموضوعٍ، أو سرداً لحوارٍ..
مزقت آلاف الأوراق، هنا حاشيةٌ وهناك سهمٌ أو استطرادٌ لفكرةٍ على مُسوّدة، وبعدها يأتي ذلك السحر حين أنهي كلّ شيء باسمي، وأنا أرتّب الأوراق المرقّمة لأنقلها إلى الجهة المرغوب النشر فيها صحيفة أو مجلة، ومرات للتنضيد في عملي التلفزيوني ليرافقني وأنا أقدم البرنامج أو أجري الحوارات المتلفزة، أو أتابع كمعدّة حلقاتي التلفزيونية على اختلاف مضامينها..
رحلةُ عمرٍ لا يمكن اختصارها بقلمٍ لن يجفّ حبره طالما هنالك نبض يتجلى، أو يتراقص في جسدي..
إنه عشق العمل الإعلامي بكل معانيه، إنه الغواية والاعتياد والإدمان – سمِّه ماشئت – فقد بات يسري وقهوتي الدمشقية في عروقي!
وأبدأ الكتابة من جديد.. أستحضر الزمن الوليد من ذاكرة طفولةٍ تكاد تلوّن مشاكستي للحبر والورق، كتبت كثيراً ما يشبه الوجدانيات – أضحك اليوم عندما أعيد قراءتها على بساطتها – وكنت قد قررت «هذا هو طريقي، وهنا حلمي الأول» الكتابة والنشر، اجتهدت يومها أن أتحدّى مقدرتي الطفولية في كتابة القصيدة الكلاسيكية، الشعر والبحور والتفعيلة كي يليق اسمي بأول قصيدة نهضت من البحر البسيط لتسكن مجلة «الثقافة» الأسبوعية للعلامة الكبير مدحة عكاش رحمه الله، والذي حين قابلته للمرة الأولى وعمري كان آنذاك ثلاثة عشر ربيعاً ونيّف – وكان كبار المفكرين والكتّاب يحسبون ألف حسابٍ لهيبة قامته اللغوية والأدبية – جلست أتعثّر بالكلام وأنظر أرضاً وهو يقرأ أوراقي ويردف تمتماته بحوارٍ عن التفعيلة والشعر والمعاني والمفردات.. أذكر أنها كانت قصيدة حبٍّ عاطفية أخجلني النقاش حولها وأنا الطفلة التي نهضت للتوّ من أرجوحةٍ كان يهدهدها لها والدها عاشق الأدب والرسم والموسيقى والفكر..
وانتشرت القصيدة مع رسوماتٍ محببةٍ جاورَتها، حينها لم أتمالك نفسي من الفرح وأنا أمسك بالجريدة وأسرع الخطوات في دروب دمشق التي تسكن أرصفتها وشوارعها شراييني، كي أصل إلى حضن أبي الذي تقصّدت مفاجأته بها واسمي مقرون باسمه هو الأديب الكبير الذي لطالما تمنيت أن أنشر كتاباتي مثله في أهم الصحف المحلية والعربية، وكان لي ذلك! وتبعها عبر سنوات الدراسة والبحث والتعمق والتخصص.
وقبل وبعد تخرجي من كلية الإعلام وخلال عملي الإعلامي، نشرت آلاف القصائد والمقالات والافتتاحيات والنقد والحوارات الصحفية في شتى المجالات السياسية والثقافية والفنية والفكرية، إلى جانب عملي التلفزيوني..
وكان أبي رحمه الله يحتفظ بكل ما كتبتُ مؤرشفاً بأقصوصاتٍ من عشرات إن لم أقل مئات الجرائد والمجلات الهامة، مع تسجيلات فيديو لكل ظهور لي في عديد البرامج من إعدادي وتقديمي على شاشة التلفزيون العربي السوري – التلفزيون بيتي وعملي الذي أعشق – حتى إن غرفة المكتبة لم تعد تتسع لكل هذا الأرشيف الذي هو حبر الروح!
أذكر جيداً أن قديستي أمي كانت تردد دائماً بأنها ومنذ طفولتي لم ترني يوماً وحتى الآن أجلس من دون كتابة، وتعرف جيداً إدماني لاثنتين: دمشق والكتابة، أما القراءة فهي ثالثهما.
وأبدأ الكتابة من جديد.. كل تلك التداعيات أستحضرها وأنا أمسك بالقلم بكل تواضع أمام جلالته، هذا القلم الذي كان هوايتي وحمل موهبتي وصقلها ومنحني مكانةً أتباهى بها، لأنه بقي نظيفاً هائماً بين الناس يلملم أوجاعهم ويبارك أفراحهم، ويمنحني السكينة والأمان.
لا تقل يوما لن يمكنني.. لا أستطيع!
جرّب، حاول، اسعَ، تبيّن، تعثّر، انهض، وستحقق نصف الحلم أو أكثر..
وإياك أن تحقق كامل حلمك.. لأنك ستنتهي، ابقِ شيئاً منه يتجدد ويتفرّع، كي تبقى أنت صامداً في وجه الريح والمصاعب، تجذّر بالإرادة.. ولتكن سنين عمرك عطاءً بلا انتظار للشكر، لأن الأقدار ستهبك ما هو أكبر من شكر الآخرين، إنه احترامك لذاتك واحترام الآخرين بكل طواعية ومصداقية لك..
وأبدأ الكتابة من جديد.. لأني لن أقف فقط على عتبات الماضي، فلديّ دائماً الجديد الذي يصلح رغم صغره أو كبره أن يُدوَّن قبل أن تشيخ الذاكرة وننسى، وقبل أن يصير العمر سراباً ونحن نغتسل من خطايا النسيان!
وأبدأ غواية الكتابة الآن.. يحضرني العنوان قبل الموضوع، تتداعى الرؤى وتتعانق الأفكار كمئذنةٍ وكنيسة، يسري عبق ياسمينها في الروح، أختزل بها كل عناوين العشق.. إنّها: «دمشق».
التاريخ: الثلاثاء3-3-2020
رقم العدد : 989