في كل مرة يكتب فيها الشعر يجعلنا نشعر بالسعادة, والجمال, والحقيقة, فأسلوبه المختلف, وتعابيره التي تتميز بالدقة اللغوية مع البساطة والسهولة والوضوح, تدلنا أن مَن كتب.. هو الأديب عباس حيروقة عضو اتحاد الكتاب العرب وصاحب الكثير من المجموعات الشعرية (كتراتيل الماء وقيامات الفرات وشعب الضفاف..الخ).
(من سيرة الغَمَام والظِّل) عنوان مجموعة شعرية للشاعر والأديب عباس حيروقة صدرت مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب بـ147 صفحة من القطع المتوسط, حيث تضمنت عدداً من القصائد المتنوعة نذكر منها (ويعلو غمام – غربان البلاد – أشهد أنني – رفقاً بكرمي – فراغ – أسئلة برسم الذات..الخ).
تصبحين على وسادتي وردة ممعنة
في النداوة والاحمرار
على شباك بيتي في أقاصي الريف نسمة
سُنونوةً, فراشة أتعبها الندى
فراحت تفرد جناحيها للضوء ولي..
تُصبحين على شفتي رعشة
تَشدني عارياً تُدخلني بالزّهد بالوجد بالاتحاد
آية تُزمّلني بأسراب فراشٍ يهيم بالنور
من زمن النبوة.. تُصبحين.. وأكثر
بهذه الكلمات نقرأ جمال الحب الذي يعتلي قلب الشاعر, ونرى الرؤيا والروح والإيثارة, فحيروقة عبّر عن كل خلجة وشعور, عكس مايختلج نفسه من خواطر وإشعاعات فكرية, فتماهى معها وجعلنا نعيش معها حتى النهاية.
لكنّ لحب الوطن في نصوص المجموعة شكلاً آخر, وروحاً مختلفة, وصوراً تعبيرية أجمل وأبهى, فهو كالرسام ينحت مفرداته, فبدت كتلاوة نسمعها فنطرب لها.
الوطن.. وردة أم كفن, علّقوه بجيد الصغار
كتعويذة كي تقينا المآسي
وما يتهاطل من قاتمات الزمن
الوطن: صادروا قلبه نبضه غيمه
جرّدوا ياسمين البيوت, الشوارع أبيضها
والصغار أناشيدها, والفرات الذي لايموت
أجهش الصبح يسأل عن ضفتيه
وعمّا ترتله الأمهات
إذا ماتهددها عقرب في البيوت
والقارئ لقصيدة (رفقاً بكرمي) يشعر بأن لغة الشاعر تحتاج إلى بحث مطول لمعرفة سر وسحر هذا الأسلوب الآسر, فهو يبتعد عن القوالب الجاهزة والتكرار الممل.. يكتب بأسلوبه الجميل, وبانسيابية ممتعة, لنكتشف عنصراً مهماً وهو الوجود الإنساني في جوهره.
وللحزن مكان في شعر حيروقة, فهو يصفه بطريقة تعبيرية متميزة في قصيدة (حتى الكروم حداداً أمحلت وذوت) ليجعلنا نردد داخل قلوبنا ما أقسى الفراق والحنين عندما يطرق قلب الشاعر, هو يحلق فينا كي نعيش معه لحظات نراها ولانريد أن نراها أو نصدقها, لحظات الحزن على مَن نفقد.. إنه التماهي لرؤى الحواس وشغفها:
تصدع القلب وازداد الحشا لهبا
تبكي صديقاً صدوقاً.. بل أخاً وأبا
تصدع القلب من وجدٍ ومن ألم ٍ
يأبى يُصدق أن البدر غَرُبا
مذ شاع ياسامر الأخلاق مصرعكم
تلجلج الحزن في الأعماق واضطربا
وفي قصيدته (إذا ما الحمام بهول الحروب أضاع الهديل) يكتب حيروقة شعره بالإبداع والتوهج, صوّر الواقع بدقة متناهية, وفتح أسارير القلب ومافيه, في أبياته شجون وحزن وقلق وأمل, لذلك لامست حروفه شغاف قلبنا, فانسكبت معانيها نغماً:
إلهي.. هنا في دمشق وأذكر أنّي دنوت كثيراً
هَمَستَ بأذني تقول:
هنا في دمشقَ إليها حنوناً يجيء القمر
يسوق كريح قطيع الغمام أمامي
ويفرش بين يديها نجوماً.. زهر
إليها حنوناً تجيء القمر فندرك أن الشهيد نبياً
تجلى إلينا.. علينا
بهيئة برق ورعد وحيناً سَحاباً
وحيناً مطر.. مطر.. مطر
أما ذكريات الماضي فتعابيرها جليّة في شعر حيروقة, ففي قصيدة (فيجفل القلب) يتحدث إلينا بطريقة مشوقة وتعبيرية, فلاشك أن لكل قصيدة مذاقاً خاصاً, لكن الحقيقة التي يحملها الأصلاء في هذه القصيدة أعطت الدفء للمعاني.
كنا نسافر في الدنيا.. نفور بها
بالفلك نسبح كي نجني لنا رُتبا
ونغرق البحر في أمواج أسئلة
تضطر شاطئة أن يخلع الحُجُبا
نعدو الدروب على ايقاع صيحتنا
عمار النعمة
ammaralnameh@hotmail.com
التاريخ: الخميس 12 – 3 – 2020
رقم العدد : 17215