(إضاءات)
لينــــا كيــــــلاني:
ونحن المحتجزون في بيوتنا.. ننتظر متى يُفرج عنا بإعلانٍ يُقر بهزيمة عدوٍ غير مرئي يطاردنا من كل زاوية يستطيع التسلل إليها.. ولا نملك سوى الترقب، وربما القلق من قادم مجهول، ومتابعة أخبار جائحة متفجرة شغلت كل وسائل الإعلام وقنواته على مدار الساعات والأيام، وهي تنتقل من هنا إلى هناك.. أما الوقت فنحن في سباق ماراثوني معه لنقضي على مرض شرس يريد أن يفترسنا جميعاً.
ومن المفارقة أنه في زمن العولمة، والقنوات المتصلة بين البشر، وعملياً على أرض الواقع قبل أن تكون إلكترونياً، والتي جعلت من العالم مكاناً واحداً أصبحنا مطالبين بالعزلة، وأن يبتعد أحدنا عن الآخر بمقدار مسافة الأمان التي تضمن له عدم العدوى.. ولكن هل يا ترى نحن حقاً نحقق مسافة الأمان هذه بيننا وبين الآخرين في حياتنا الاعتيادية، وفي تعاملاتنا اليومية وقبل عهد (الكورونا)، أم أننا نخترقها في كل لحظة، وبكل شكل ولون، ونكسر قواعدها لنتجاوز على حق هذا الآخر فلا نصونه، ولا نحفظ حدوده مقابل حدودنا؟.. هل في وقتنا الحاضر ما زال الجار يراعي حق الجوار.. وهل الصديق ما زال يحفظ عهد الود والصداقة، والأبناء هل يقومون بواجباتهم كاملة تجاه الآباء والأمهات؟.. وهل.. وألف هل أخرى تحمل السؤال.
في حقيقة الأمر أننا لو عرفنا كيف نراعي كل المسافات المعنوية في العلاقات الإنسانية لأصبح من السهل علينا الآن في زمن (الكورونا) أن نحقق تلك المسافة المادية للأمان التي تضمن سلامة غيرنا، وهي تضمن سلامتنا في الوقت ذاته.
إن فكرة العزل بما تحمله من عزلة، وافتقاد للآخرين جعلت الناس يتمردون عليها لأنهم اعتادوا على الحياة خارج بيوتهم إذ لم تعد البيوت أكثر من مأوئ للراحة، والنوم، والمأكل.. بينما المسكن في مفهومه العام هو الأمان، والأسرة، والسكينة، وليس السقف، والجدران.
والحكومات تناشد مواطنيها بكل السبل لعزل أنفسهم في بيوتهم بينما هم يمارسون تمرداً يكاد يشبه تمرد الأطفال على ذويهم عندما لا يأتون لهم بما يريدون.. وهذا ما دفع بدوره الحكومات بالتالي لاتخاذ إجراءات صارمة تجبر مواطنيها على الالتزام بها.. فهل سألنا أنفسنا عن معلومات الوقاية، أو سبل الشفاء؟ بل هل قرأنا عن جائحات العالم التي حصلت من قبل؟
ويتم حظر التجوال في أغلب الدول، وتظهر المشكلات الأسروية لمن لا يطيقون البقاء في بيوتهم، ويصيبهم رهاب المنزل، وكأنهم يهابون مواجهة أنفسهم.. ويحار الصغار من أمرهم دون مدارسهم، بينما يستنجد أهلوهم بالتعليم عن بعد، وهم يتساءلون كيف يضمنون لهم الوقاية، ويضبطون منهم السلوك.. بل كيف يفسرون لأصغرهم ما معنى وباء عالمي، كيف يفهمونهم حقيقة ما يجري دون أن يسربوا الخوف إلى نفوسهم الغضة ما دام الكبار أنفسهم في حالة من الخوف والترقب!
لقد أصبحنا غير قادرين على تغيير ما اعتدنا على ممارسته، وما ألفناه من أنماط الحياة.. فكيف إذن سنحقق المعادلة في ضبط مسافة الأمان المطلوبة بيننا إذا ما غاب الوعي الصحي، والاجتماعي، وقد اختلطت منا الأوراق، ووقعت بيننا التجاوزات؟.. إلا أننا الآن في مرحلة تاريخية حاسمة، وفارقة حبستنا معاً في عنق الزجاجة، ونحن نبحث عن سبيل للخروج منها.. ولا حلول مجدية في اللحظة الحاضرة سوى التنائي بيننا.. أصدقاء.. وأقرباء.. وأحباء.
سلوك جديد نمارسه، وتجربة جديدة يختبرها إنسان الألفية الثالثة، وقد عُرِّف الإنسان من قبل على أنه (حيوان اجتماعي) لا يقوى على العزلة التي تحبس روحه قبل جسده ما لم يتحقق له التواصل مع الآخرين، ولعله لهذا السبب لقيت وسائل التواصل الاجتماعية رواجها الكبير عند كل الناس، وهي على أي حال الآن نافذتهم الوحيدة التي يطلون منها على بعضهم البعض لكي لا يشعر أي منهم أن العالم أصبح خاوياً لا يسكنه أحد.
والناس في حجزهم الإجباري، أو الاختياري يحارون ماذا يفعلون بساعات أيامهم التي تبدو رتيبة ومتشابهة بعد أن عادوا إلى بيوتهم، وتوقفت أعمالهم.. لنصبح من جديد في جزر مغلقة بعد أن جعلتنا التكنولوجيا في جزر منعزلة.. لكن هذا ليس سيئاً كما يبدو إذ لعلهم خلال مدة العزل هذه يعيدون اكتشاف ذواتهم.. والمرء يراجع عاداته، ويدقق في سلوكه، فيحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره.. فيخرج من التجربة بما يفيد لكسر دائرة ما ساء من ممارساته.
العالم في إجازة.. العالم في حالة عزل شامل.. العالم في حجر صحي كامل.. وحتى إشعار آخر.