ثورة لأون لاين – فاتن أحمد دعبول:
” لقد شبعت من الحياة، عشتها بكل مافيها، وماعدت أرغب بالمزيد ..” ربما طرق أبواب الحياة من أبوابها الواسعة لا ليعبرها خالي الوفاض، بل لتكون زوادته من العلم والمعرفة والحصاد الكبير الذي أضفى على الحياة لوناً آخر للعطاء، فلم يكن الأدب لديه إلا هواية، ومع ذلك فقد أغنى المكتبات بأكثر من أربعين مؤلفاً بين القصة والرواية والشعر وأدب الرحلات والأسفار والمقامات، وكان الطب مهنته الإنسانية الأساس التي يمارسها مجاناً على الأغلب، ورغم ذلك سعى في أبحاثه العلمية جاداً ليساهم في علاج مرض شلل الأطفال، فمن يكون ذاك المتربص بالعطاء والمحبة والإبداع؟
يقول العجيلي:
كنت مغرماً بالقراءة منذ الصغر حسب المتاح لي من الكتب الدينية والقصص الشعبية، وبالطبع ليست هي من جعلت مني أديباً، ولكنها ساهمت في غرس بذرة الأدب في عالمي الخاص وبقيت في أعماق نفسي وشعوري، وبعد أن انتقلت من الرقة إلى حلب أتيحت لي مصادر أخرى من الأدب العربي والترجمات وقرأت بعض الكتب بالفرنسية لإيماني بأن الموهبة وحدها لاتكفي لصنع الأديب، بل يجب أن يكون على دراية عالية وملاحظة دقيقة لما يدور حوله.
وفي دمشق انتسبت لكلية الطب، ولكن ذلك لم يمنعني من الكتابة ونظم الأشعار، وكانت البداية مع” ع، ع” الاسم المستعار الذي ذيلت به قصتي الأولى” نومان” ونشرت في مجلة الرسالة المصرية بالعام 1936.
ولد العجيلي في الرقة للعام 1918 وتوفي ودفن فيها في 5 نيسان 2006 بعد مسيرة حافلة بالإنجازات، فقد انتخب نائباً عن الرقة في البرلمان السوري عام 1947 وكان أصغر النواب سنا، وتطوع مع القوات العربية في حرب الإنقاذ عام 1948، وتولى وزارات الثقافة والإعلام والخارجية في سوريا.
حظي بالعديد من الألقاب، فقد أطلق عليه لقب” أيقونة الرقة وطبيب الأدباء وأديب الأطباء، وقال عنه نزار قباني” أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته الصحراء” كما وصفه الناقد صلاح فضل” بأنه من جعل الرقة مدينته إحدى عواصم الرواية العربية ..”
وكان” لثالث أنهار الرقة بعد الفرات وهارون الرشيد” مؤلفات بلغ عددها 44 كتاباً، ترجم قسم كبير منها إلى لغات أجنبية ودرّست في المناهج التعليمية والأكاديمية، وحاز عدة تكريمات وجوائز وكتب عن أدبه وتجربته.
كتب الشعر الساخر وبرع فيه على الرغم من شهرته قاصاً وروائياً، كما برع في الطب وأدب الرحلات وأعاد إحياء فن المقام في كتابه” المقامات” وقد أطلق اسمه على أحياء ومدارس وقاعات علمية عديدة.
وتعد كتاباته من أغنى وأهم الروايات الأدبية والمراجع العربية في تاريخ الأدب العربي ونذكر منها” رواية قلوب على الأسلاك، عيادة في الريف، مجهولة على الطريق، مقامات عبد السلام العجيلي وأشعاره، ذكريات أيام السياسة ..”
حكى في رواياته عن أسفاره ورحلاته وعن العلاقة بين الشرق والغرب، وبين الرجل والمرأة، ومهما شط به المزار فحنينه دائماً إلى مسقط رأسه مدينته الرقة، وإلى ناسها وهمومهم فكتب” بنت الساحرة، باسمة بين الدموع، المغمورون، أرض السيّاد ..” وهو أول من وثق قضية الفلاحين الذين غمرت المياه أراضيهم في بحيرة سد الفرات، واستمد من مدينته كثيرا من أدبه، وكتب عشرات القصص استوحى روحها من طبيعة الناس ومن أفكارهم من مثل” النهر سلطان، كفن حمود” واستطاع أن يلتزم بقضايا الإنسان العربي وحقه في الرخاء والحرية والعدل.
والمفاجىء روايته” أجملهن” التي كتبها وقد تجاوز عمره الثمانين والتي غمرت قراءها بعنفوان تجربتها الشابة ومايتوهج فيها من عشق الجمال وسحر الأنوثة وطزاجة المناظر الطبيعية، ويتجاوز في ذلك أدب الرحلات المألوف لتنفذ إلى أسفار القلوب وحنايا الروح في فلسفتها الرائعة عن الدين والحياة، الحب والجنس، الشرق والغرب، في لغته المتألقة التي تذكرنا برصانة الكتّاب الكبار أمثال الجاحظ وابن المقفع والتوحيدي، وهو يعبر بتلك اللغة العالية عن قضايا معاصرة وحيوية، فيبث الحياة في لغته وموضوعاته معاً، دون أن تبدو تلك اللغة القاموسية مصطنعة، بل لغة حية لأن صاحبها يحس بها ولايفتعلها أو يفرضها على قارئه من موقع الاستعراض اللغوي.
مسيرة حافلة وغنية قضاها الأديب والطبيب عبد السلام العجيلي، ونحن اليوم إذ نستعيد في ذكرى رحيله ال14 فإننا نعيد إلى ذاكرة الأجيال سيرة أيقونة قدمت خدمات جليلة لكل الناس دون كلل أو ملل، سواء على صعيد الطب أوالأدب، أفلا يستحق هذا الأديب أن توثق حياته بفيلم سينمائي أو مسلسل درامي ليكون في ذاكرة الأجيال منارة تغني محطات من حياتهم؟