في عام 1980، وكنا طلاباً على عتبة التخرج في كلية الفنون الجميلة، زارنا فريق عمل تلفزيوني لإجراء تحقيق عن واقع الكلية، وكانت حماستنا كبيرة للحديث عن ضيق المكان، وعجزه عن تلبية متطلبات الخطة التدريسية، خاصة وأنه – في الأصل – مبنى سكني غير مهيأ لاستقبال ذلك العدد الكبير – نسبياً – من الطلاب الموزعين على خمسة أقسام، لكلٍ منها حيزه الخاص واحتياجاته الخاصة، مضافين إلى المدرسين والإداريين. وأقول نسبياً لأن عدد الطلاب جميعاً حينذاك، بأقسامهم الخمسة، وسنواتهم الخمس، لم يكن ليبلغ الأربعمئة طالب.
بذات الحماسة التي تحدثنا فيها خلال التقرير التلفزيوني، ترقبنا عرضه. ولما حان وقت العرض تحولت تلك الحماسة إلى إحباط عميق، فأي منا لم يكن ضمنه، وضاعت علينا جميعاً فرصة الظهور التلفزيوني، العزيزة حينذاك، وفرصة الشكوى، التي تبدو (أحياناً) كحالة غريزية تملك رغبة الوجود كغاية بحد ذاتها. وبدلاً من أحاديثنا العديدة التي تكرر الشكوى ذاتها، استضاف البرنامج التلفزيوني أستاذنا محمود حماد، عميد الكلية آنذاك، فتحدث بكلمات قليلة وافية عن مشكلة ضيق المكان وآثارها، قبل أن ينتقل ليتحدث بإسهاب عن مشروع المبنى الجديد للكلية، مستعرضاً مخططاته ونموذجه الصغير المجسم (الماكيت) وكيف روعي في التصميم كامل متطلبات الكلية في أقسامها جميعها. الغريب، وربما لا يكون كذلك، أن أحاديثنا في اليوم التالي كانت في غالبيتها تشكو من عدم عرض شكوانا في البرنامج، ولا تحفل بالحل الذي قدِّمَ لها، والذي صار أمراً واقعاً بعد سنوات قليلة.
لم يتحدث المعلم محمود حماد عن مشروع المبنى الجديد للكلية بصفته عميدها يومذاك، وإنما بصفته صاحب هذا المشروع الذي أعطاه جهداً ووقتاَ كبيرين، والأهم منهما: خبرة عميقة كانت حصيلة مشاهداته في كليات الفنون التي درس بها، أو زارها، وملاحظاته الدقيقة والشاملة خلال السنوات الذهبية التي أدار فيها الكلية، وملامسته الشخصية لمشاكلها واحتياجاتها. وقد وضع ذلك كله، ومعه رؤيته الإبداعية بين يدي المعماريين الإيطاليين الذين كُلفوا بتصميم المبنى الفسيح الرائع، وتابع معهم كل المراحل حتى تم إنجاز مخططات المبنى الذي استقرت فيه الكلية بعد رحلة بدأت في مبنى سكني مستأجر في منطقة العفيف عام 1960 ثم في مبنى سكني آخر في شارع بغداد، ثم في مبناها الأشهر في ساحة التحرير بنهاية شارع بغداد، والذي كان بدوره مبنى سكنياً.
يتمتع المبنى الحالي بكل ما افتقدته المباني السابقة، ومن أهمها فسحة المكان التي وفرت متطلبات الأقسام جميعا، وخاصة قسم النحت، الذي يتطلب مساحات وتجهيزات تفوق احتياجات باقي الأقسام, وهذا يؤدي إلى الحديث عن نقطة هامة تتعلق بالمنهاج التدريسي فيه، فمع أن قسم النحت قد عرف أساتذة وطلاباً متميزين، يلفت النظر أن النماذج الإغريقية – الرومانية ما تزال وحدها ما يتدرب عليها الطلاب. وإذا كان مفهوماً اعتماد هذه النماذج باعتبارها تمثل الأسلوب الكلاسيكي في النحت، فإنه من غير الصحيح عدم اعتماد النماذج النحتية لمنطقتنا، إلى جانبها على الأقل. فهذه النماذج لا تمثل اختلافاً في الأسلوب بقدر ما تترجم اختلافاً في المفاهيم الجمالية. ينطبق هذا على النحت السومري والفينيقي والأكادي والآرامي والأشوري والبابلي والمصري.
يتوفر في متاحفنا عدد هام من النماذج المحلية السائدة في منطقتنا، وربما تساهم خطوة مشتركة بين كلية الفنون الجميلة والمديرية العامة للآثار والمتاحف، في تلافي هذا الخلل، والأمر هنا أبعد أثراً من تدريب طالب.
إضاءات: سعد القاسم