الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :
كما يبدو من الوباء الجديد أنه يتطور ليشكل اختباراً حاسماً وهائلاً للعولمة. فمع التدهور الخطير في شبكات التجهيز، وفي مخزونات الدول من التجهيزات الطبية والإسراع لتقييد السفر، فإن الأزمة تضغط لإعادة تقييم كبرى للاقتصاد العالمي المترابط. العولمة لم تسمح فقط للأمراض المعدية بالانتشار وإنما هي سرّعت من الاعتماد المتبادل العميق بين الشركات والدول، لدرجة جعلتهم أكثر حساسية للصدمات غير المتوقعة. حالياً، الشركات ومعها الدول اكتشفت حجم الهشاشة والحساسية التي هي فيها.
الفايروس والجاهزية
لكن الدروس من الفايروس الجديد هي ليس أن العولمة فشلت، وإنما هي هشة رغم الفوائد التي جاءت بها. منذ عقود، أدّت الجهود المتواصلة من جانب الشركات الفردية للحد من التكرارية غير الضرورية في العمل، الأمر الذي خلق ثروات غير مسبوقة. تلك الجهود قللت أيضاً من كمية الموارد غير المستخدمة، وهي ما يسميه الاقتصاديون «التباطؤ» slack في الاقتصاد العالمي ككل. في الأوقات العادية، الشركات عادة ترى التباطؤ كمقياس للكسل أو حتى للهدر أو سوء استعمال الطاقة الإنتاجية. هذا التباطؤ وإن كان قليلاً، سيجعل النظام الواسع هشاً في أوقات الأزمات، وسوف يعيق أنظمة الطوارئ المصممة ضد الفشل.
إن عدم وجود بدائل تصنيع طارئة، يسبب انهياراً في سلسلة التجهيز، مثلما حدث في القطاعات المتصلة بالطب والصحة نتيجة للوباء الجديد. المنتجون للتجهيزات الطبية الحيوية وجدوا أنفسهم أمام طلب عالمي كاسح محفزاً الشركات على التنافس مع بعضها على الموارد. محصلة ذلك كانت تحولاً في ديناميكية القوة بين اقتصاديات العالم الرئيسية مقابل أولئك الذين هم مستعدون جيداً لمواجهة الفايروس الجديد، إما بتخزين الموارد لأنفسهم، أو مساعدة من يفتقرون إليها، وبالتالي توسيع نفوذهم في المرحلة العالمية.
فاعلية هشة
الرأي الشائع حول العولمة، هو أنها خلقت سوقاً عالمياً مزدهراً، سمح للمصنّعين ببناء سلسلة تجهيز مرنة عبر استبدال مجهز أو عنصر مجهز أو عنصر آخر عند الحاجة. أصبح كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث ثروة للعالم عندما استفادت الشركات من تقسيم العمل المعولم. التخصص أنتج أكبر فاعلية، والتي بدورها قادت إلى النمو.
لكن العولمة خلقت أيضاً نظاماً معقداً من الاعتماد المتبادل. فالشركات احتضنت سلاسل تجهيز عالمية، محفزة المزيد من شبكات الإنتاج التي نسجت الاقتصاد العالمي إلى بعضه. مركّبات سلعة معينة يمكن أن تُصنع الآن في عدة دول. هذا الاندفاع نحو التخصص أحياناً خلق صعوبات في الاستبدال خاصة بالنسبة إلى المهارات أو السلع غير العادية. ومع تحول الإنتاج نحو العالمية، أصبحت الدول أيضاًَ أكثر تمسكاً بالاعتمادية المتبادلة، لأنه لا توجد دولة تستطيع السيطرة على جميع السلع والعناصر التي يحتاجها اقتصادها. الاقتصادات القومية انخرطت ضمن شبكة عالمية واسعة من المجهزين.
إن الوباء الناتج عن فايروس كورونا الجديد كشف عن هشاشة النظام المعولم. بعض القطاعات الاقتصادية، خاصة القطاعات ذات الدرجة العالية من التكرار والنمطية والتي تمارس الإنتاج عبر عدة دول، قد تنجو من الكارثة نسبياً. دول أخرى قد تُدفع نحو الانهيار عندما يمنع الوباء مجهز منفرد في بلد منفرد من إنتاج مركب حيوي واسع الاستعمال. فمثلاً، صانعو السيارات في أوروبا الغربية قلقون من نقص الإلكترونيات الصغيرة، لأن مصنّعاً واحداً وهو MTA اُجبر على وقف الإنتاج في أحد مصانعه في إيطاليا.
في الأوقات المبكرة، بنى المصنّعون مخزوناً من التجهيزات لحماية أنفسهم في لحظات كهذه. ولكن في عصر العولمة، تلجأ العديد من الشركات إلى المبدأ الشهير لـ (تيم كوكس) مدير شركة آبل، بأن مواد الخام هي «شر أساسي». بدلاً من أن تدفع الشركات الأجزاء الاحتياطية التي تحتاجها لصنع سلعة معينة إلى المستودع، فهي تثق بسلسة التجهيز «في الوقت المطلوب» Just in time التي تعمل كما يشير له الاسم. ولكن في وسط الوباء العالمي أصبح نظام التسليم عند الطلب متأخراً جداً. ونتيجة لمشاكل سلسلة التجهيز، هبط الإنتاج العالمي للّابتوب بمقدار 50% في شهر شباط الماضي، وإنتاج التلفونات الذكية قد يهبط بنسبة 12% في هذا الشهر. كلا السلعتين يتم تصنيعهما بمركّبات اُنتجت من قبل مصنّعين متخصصين آسيويين.
نقص حاد
اختناقات الإنتاج، كتلك التي حدثت في الصناعات الإلكترونية، هي أيضاً تعيق الكفاح ضد الفايروس الجديد. التجهيزات الطبية الأساسية مثل أجهزة الفحص، التي هي عنصر أساسي في عمليات الاختبار التي تجريها المختبرات للكشف عن المادة الوراثية للفايروس، هي إما تعمل ببطء أو غير متوفرة في العديد من الدول. شركتان تسيطران على إنتاج أجهزة الفحص الضرورية هما الشركة الهولندية Qiagen، مؤخراً تم شراؤها من جانب الشركة الأمريكية العملاقة (Thermo Fisher Scientific) وشركة Roche Laboratories، التي مقرها في سويسرا. كلا الشركتين كانتا غير قادرتين على مجاراة الصعود الاستثنائي الحاد في الطلب على المنتجات. هذا النقص في السلع أدّى إلى تأجيل إنتاج أجهزة الفحص في الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها مضطرة للوقوف خلف الدول الأخرى، بانتظار شراء المواد التي تحتاجها.
ومع انتشار الفايروس الجديد، خضعت بعض الحكومات لميولها. وحتى قبل أن يبدأ وباء كورونا، قام المصنّعون الصينيون بإنتاج نصف أقنعة العالم الطبية. هؤلاء المصنعون عجّلوا من الإنتاج كنتيجة للأزمة، لكن الحكومة الصينية تمكنت وبكفاءة من شراء كل تجهيزات البلاد من الأقنعة، وفي نفس الوقت استوردت كميات كبيرة من الأقنعة وأجهزة التنفس من الخارج. كانت الصين في الحقيقة بحاجة إليها.
أما الدول الأوروبية، فلم يكن سلوكها أفضل. روسيا وتركيا منعتا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس. ألمانيا فعلت الشيء ذاته مع أنها عضو في الاتحاد الأوروبي، والذي يُفترض أن يكون فيه سوق موحد وتجارة حرة بين دوله الأعضاء. الحكومة الفرنسية قامت ببساطة بالاستيلاء على كل ما متوفر من أقنعة. وهو ما جعل مسؤولي الاتحاد الأوروبي يتذمرون من أن هكذا فعل يُضعف التضامن ويمنع الاتحاد الأوروبي من تبنّي اتجاه مشترك لمواجهة الفايروس الجديد، لكنهم ببساطة لم يستمع إليهم أحد.
تعميق الأزمة
هذه السياسات النفعية الضارة بالدول الأخرى، قادت إلى تعميق الأزمة، حيث خنقت سلسلة التجهيز العالمية للسلع الطبية الملحّة. المشكلة كانت رهيبة للولايات المتحدة التي كانت متأخرة في تبنّي استجابة متماسكة للوباء، فكانت تعاني من نقص في العديد من التجهيزات التي تحتاجها. كان لدى الولايات المتحدة مخزون من الأقنعة، لكنها لم تقم بتعويض النقص في حركة المخزون منذ عام 2009 وهي لديها فقط نسبة من العدد المطلوب. ومن غير المدهش، أن مستشار ترامب للتجارة Peter Navarro استخدم هذا النقص وغيره لتهديد التحالف ولتبرير الانسحاب من التجارة العالمية، مجادلاً أن «الولايات المتحدة تحتاج إلى سحب إمكاناتها التصنيعية وسلسلة التجهيز للضروريات الطبية إلى البلاد». وبالتالي، كانت ألمانيا قلقة من أن إدارة ترامب تسعى لشراء اللقاح الجديد الذي تقوم بتطويره شركة ألمانية، لكي تستعمله في الولايات المتحدة. ألمانيا تدرس الآن القيام بعمل معاكس حول اللقاح أو منع الإجراء الأمريكي.
تأثيرات الفايروس
بينما استخدمت إدارة ترامب الوباء للانسحاب من التكامل العالمي، استعملت الصين الأزمة لتعرض رغبتها في القيادة. وباعتبارها أول دولة ضربها الفايروس الجديد، عانت الصين بشكل مؤلم في الثلاثة أشهر الأخيرة. لكنها الآن بدأت تتعافى، بينما بقية دول العالم تغرق في الوباء. هذا يثير مشكلة للمصنّعين الصينيين الذين يواصل بعضهم العمل مرة أخرى، لكنهم يواجهون طلباً ضعيفاً من الدول التي في الأزمة. لكن هذا أيضاً يعطي الصين فرصة كبيرة وقصيرة الأجل للتأثير على سلوك الدول الأخرى. ورغم الأخطاء المبكرة، إلا أن بكين تعلمت كيف تصارع الفايروس الجديد وتوفر مخزوناً كافياً من التجهيزات. تلك كانت إمكانات قيّمة، وبكين استطاعت توظيفها بمهارة.
في بداية مارس، طلبت إيطاليا من دول الاتحاد الأوروبي تزويدها بتجهيزات طبية طارئة، لأن النقص الحاد أجبر أطباءها على اتخاذ قرارات مؤلمة حول أي المرضى يمكن علاجهم وأي منهم يُترك ليموت. لا أحد استجاب لها. لكن الصين استجابت، فقدّمت وسائل التهوية والأقنعة والبدلات الواقية والمنظفات. وكما ذكر الخبيران الصينيان Rush Doshi و Julian Gewirtz أن بكين تسعى لتصف نفسها كقائد للعالم في صراعه ضد الوباء الجديد، لكي تعزز النية الحسنة وتوسع نفوذها.
هذا بالطبع لا يلائم إدارة ترامب، التي كانت بطيئة في مكافحة الوباء الجديد (حين اعتقدت أن منع المسافرين القادمين من أوروبا، هو أفضل دفاع ضد المرض الذي انتشر سلفاً في أراضي الولايات المتحدة). إن لدى الولايات المتحدة القليل من الموارد التي يمكن أن تقدمها للدول الأخرى، وهي بذلك لم تعد المجهز العالمي للخدمات العامة. إن ما جعل الوضع أسوأ، هو أن الولايات المتحدة ستجد نفسها حالاً تستلم إعانات من الصين: البليونير Jack Ma المؤسس لـمجموعة علي بابا الصينية، منح تبرعات بنصف مليون جهاز فحص ومليون قناع.
الجيوبولتيك الجديد للعولمة
مع محاولات صنّاع القرار في العالم مكافحة الفايروس الجديد، كان عليهم مواجهة حقيقة أن الاقتصاد المعولم لم يعمل مثلما ظنوا. العولمة تتطلب التخصص المتزايد في قوة العمل عبر الدول، وهو أنموذج يخلق فاعلية استثنائية، ولكن أيضاً يخلق حساسية استثنائية. صدمات مثل وباء كورونا يكشف عن تلك الحساسية ونقاط الضعف. المجهزون لمورد واحد، أو المناطق التي تتخصص في سلعة معينة، يمكن أن تخلق هشاشة غير متوقعة في وقت الأزمات، مسببة انهياراً في سلسلة التجهيز. وفي الأشهر القادمة، ستتكشف العديد من هذه الحساسيات.
النتيجة من كل ذلك ستكون تحولاً في السياسة العالمية. مع خطورة صحة وسلامة مواطنيها، ستقرر الدول غلق الصادرات أو الاستيلاء على تجهيزات حيوية، حتى لو كان هذا يؤذي حلفاءها وجيرانها. هذا الانسحاب من العالم، سيجعل السخاء وسيلة فعالة ومؤثرة لدى الدول التي تستطيع تقديمه. حتى الآن، لم تكن الولايات المتحدة قائداً في الاستجابة العالمية للوباء الجديد، وقد تخلّت على الأقل عن جزء من دورها للصين. هذا الوباء يعيد تشكيل جيبوليتكية العالم، لكن الولايات المتحدة لا تتكيف، بل إنها مريضة وتختبئ تحت الأغطية.
……
نقلاً عن الشؤون الخارجية Will the coronavirus End Globalization as we know it?, Foreign Affairs, March 16 ,2020
التاريخ: الثلاثاء7-4-2020
رقم العدد : 993