الثورة- نور جوخدار :
بعد حرب طويلة أنهكت اقتصادها ودفعت ملايين السكان إلى فقدان مصادر عيشهم، تضرب سوريا والمنطقة أزمة مناخية متفاقمة، تُعد الأخطر منذ عقود، فالأمطار تراجعت على نحو متواصل، والأنهار والآبار جفت، فيما تهاوت المحاصيل الزراعية التي كانت تمثل لعقود ركيزة الأمن الغذائي، وسط تحذيرات من تفاقم الأزمة في السنوات المقبلة.
تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية أشار إلى أن شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط يواجهان أسوأ موجة جفاف منذ عقود، مع جفاف الأنهار والبحيرات وذبول المحاصيل الزراعية، وصولاً إلى انقطاعات طويلة تمتد لأيام في مياه المدن الكبرى.
واعتبرت الصحيفة أن الوضع الأكثر مأساوية تتعرض له سوريا، حيث تتراجع معدلات الهطول منذ عقود، فيما تحاول الحكومة الجديدة إعادة لحمة البلاد بعد حرب استمرت 14 عاماً.
وذكر التقرير أن نهر العاصي في إدلب جف لأول مرة في تاريخه، تاركاً الأسماك نافقة على مجراه، بينما تراجع منسوب المياه الجوفية أكثر من عشرة أمتار خلال أشهر قليلة.
ويرى خبراء المناخ أن المنطقة بأسرها تواجه خطراً متزايداً مع استمرار التغير المناخي الذي يجعلها أكثر جفافاً عاماً بعد آخر، محذرين من أن غياب إجراءات عاجلة كتخزين مياه الأمطار، والتحول إلى محاصيل مقاومة للجفاف، وتطوير أنظمة ري فعالة، قد يحول مساحات واسعة من الأراضي الزراعية إلى أراضٍ غير صالحة للزراعة خلال العقود المقبلة.
أزمة المياه، لا تقتصر على الداخل السوري، فقد تراجعت بحيرة القرعون في لبنان إلى ما يشبه بركة صغيرة بعد شتاء جاف غير مسبوق، وهو ما حرم سوريا من جزء من حصتها في المياه العابرة للحدود.
فبينما كان يتدفق نحو 350 مليون متر مكعب من المياه إلى البحيرة خلال موسم الأمطار، ما يغطي ثلث حاجة لبنان السنوية، بحسب أسوشيتد برس لم يتجاوز التدفق هذا العام 45 مليون متر مكعب فقط، ما انعكس مباشرة على سوريا التي تعتمد جزئياً على الأنهار القادمة من الغرب، وعلى رأسها نهر العاصي الذي يشكل مصدر ري رئيسي في محافظة إدلب ويعتمد عليه الصيادون.
وذكرت أسوشيتد برس، ان البيانات تشير إلى أن معدلات الهطول في سوريا تتجه نحو الانخفاض المستمر خلال 45 عاماً، إذ أصبحت معظم سنوات الألفية أقل من المتوسط التاريخي، ومع أن البلاد شهدت فترات غزيرة في أواخر الثمانينيات، فإن موجات الجفاف تكررت بشكل ملحوظ منذ عام 2010، ما فاقم أزمة الزراعة والأمن الغذائي.
يتفق الخبراء على أن سوريا والمنطقة تواجهان صدمات مناخية أشد، في وقت تفتقر فيه للاستعداد الكافي، ويقول البروفيسور المتخصص في قضايا المياه والغذاء ماتي كومو من جامعة “ألتو” في فنلندا: إن التغير المناخي يجعل بعض المناطق أكثر رطوبة وأخرى أكثر جفافاً، والشرق الأوسط والبحر المتوسط من بين المناطق الأكثر جفافاً، موضحا أن سوريا تحديداً شهدت خلال 40 عاماً تراجعاً حاداً في معدلات الأمطار، بينما استُنزفت مواردها المائية بشكل غير مستدام، وأنه لا توجد كميات كافية من المطر أو ذوبان الثلوج لإعادة تغذية المياه الجوفية.. ومع تزايد الحاجة للري ينخفض مستوى المياه الجوفية أكثر فأكثر، ما يجعل الوصول إليها أصعب ويتطلب طاقة أكبر لضخها وقد تصل في مرحلة ما إلى النفاد”.
من جهتها، أكدت منظمة الأغذية والزراعة العالمية “الفاو” أن المزارعين يعانون من ضعف القدرة على الصمود بعد الحرب، فيما تظهر البيانات أن معدلات الهطول انخفضت بشكل متواصل طوال 45 عاماً وأن إنتاج القمح تراجع من نحو 4 ملايين طن قبل الحرب إلى أقل من 2.6 مليون طن، مع توقعات بانخفاضه إلى مليون طن فقط هذا العام، ما يضطر الحكومة للاعتماد على الاستيراد والتبرعات.
الأزمة المائية لا تتوقف عند حدود سوريا ولبنان
فنهر الفرات، الذي يعبر ثلاث دول هي تركيا وسوريا والعراق، يجسد التحدي الأبرز لإدارة الموارد المشتركة، ففيما يستفيد المزارعون الأتراك من مشاريع الري والسدود ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول، تعاني سوريا والعراق من شح متزايد في المياه.
وفي تقريرها الأخير حول المياه، حذرت الأمم المتحدة من أن العدالة في تقاسم المياه تمثل شرطاً أساسياً للاستقرار، مشيرة إلى أن نصف سكان العالم يعانون من ندرة حادة في المياه خلال جزء من السنة، بينما يعيش 2.2 مليار شخص بلا مياه مؤمنة، وتتشارك 153 دولة حول العالم أنظمة مائية عابرة للحدود، ما يجعل التعاون في إدارتها أمراً مصيرياً.
وعلى الرغم من توقيع اتفاق عام 1987 بين تركيا وسوريا يقضي بتزويد سوريا بـ500 متر مكعب في الثانية، منها 290 متر مكعب للعراق، فإن الاتفاق لم يفعل بالكامل.
وتشير التقديرات إلى أن العراق يحصل حالياً على نحو 100 إلى 200 متر مكعب فقط، أي أقل بكثير من الحصة المتفق عليها.
في المقابل، يرى خبراء أتراك أن بلادهم لم تحجب المياه عن جيرانها بل شاركتهم حتى في فترات الجفاف، مؤكدين أن مشاريع السدود تهدف إلى الري وتوليد الكهرباء ومنع الفيضانات. غير أن أنقرة لم توقع على اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية وترفض تحديث اتفاق 1987، ما يزيد احتمالات النزاعات المستقبلية.
وبحسب الخبراء أن الحل يكمن في إطلاق اجتماعات ثلاثية بين تركيا وسوريا والعراق لإدارة الموارد بشكل تكاملي، واعتماد أساليب حديثة مثل الري المغلق والزراعة الذكية، بما يقلل الفاقد بالتبخر ويضمن استخداماً أكثر استدامة للمياه، كما يدعون إلى التعاون الإقليمي في مشاريع تحلية وإعادة تدوير المياه، بعيداً عن منطق السيطرة والهيمنة السياسية.
بين جفاف الأنهار في سوريا، وتقلص بحيرة القرعون في لبنان، وتراجع حصص العراق من الفرات، يتضح أن أزمة المياه في المنطقة تتجاوز حدود بلد بعينه لتشكل تحدياً إقليمياً وإنسانياً وأمنياً.