سمعت باسم المطران كبوجي لأول مرة إثر اعتقال الصهاينة له عام 1974، وأعتقد أن هذا حال معظم أبناء جيلي، باستثناء أهل القدس، وقبلهم أبناء رعيّته في دمشق وحلب، ومنذ تلك اللحظة امتلك اسمه قداسة خاصة مرافقة للقداسة الدينية، تنبع من قداسة القضية التي يناضل لأجلها.
لسوء الحظ لم يتح لي أن ألتقي بهذا الرجل الاستثنائي لا حين كان مطراناً للقدس، ولا حتى بعد أن أضيف إلى صفته: (في المنفى)، ولم أكن أعلم أنه سوري حتى عام 1979 حين جاء إلى سورية بدعوة من المرحوم ياسر عرفات ليفتتح المجلس الوطني الفلسطيني، في تلك الأيام كنت موظّفاً في مديرية الأيتام بالمحكمة الشرعية، إلى جانب دراستي الجامعية، وكان مدير الأيتام القاضي النزيه حيدر العرفي – رحمه الله – يصحبني بين حين وآخر لزيارة القاضي الشرعي الأول الشيخ عبد الرحمن مراد في منزله، كان القاضي مراد رجلاً فاضلاَ واسع العلم، شيّق الحديث، وعضواً في المجلس الوطني الفلسطيني بحكم أنه كان مشاركاً قديماً في المقاومة الفلسطينية، في ذلك اليوم من عام 1979 حدثنا الشيخ مراد عن ذهابه، ومجموعة من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني لمطار دمشق لاستقبال المطران كبوجي، وكيف أنه فور نزول المطران من الطائرة انحنى ليقبّل أرض دمشق، وأردف الشيخ مراد قائلاً: لقد فعل ذلك لقناعته أن سورية وفلسطين أرض واحدة.
عقّبت: كثرٌ من السوريين كذلك يؤمنون بهذا، فأجابني بلهجته الهادئة المعهودة: المطران كبوجي سوري، ومن حلب، لم تكن مفاجأة بقدر ما كانت مفارقة ذات دلالة عميقة: القاضي الشرعي الأول بدمشق، الفلسطيني الجنسية، يستقبل في دمشق مطران القدس، السوري الجنسية.
حضرت تلك الحكاية القديمة بكل دلالاتها مع المشهد الأول من مسلسل (حارس القدس) وهو كما صار معروفاً يسرد سيرة حياة المطران كبوجي في إطار درامي متقن، إلا أنه في الوقت ذاته يتّسم بدقة وثائقية تؤكدها الوقائع الموثّقة لحياة المطران، والتقارير الإعلامية التي غطّت محاكمته، وشهادات معاصريه الذين كانوا على علاقة وثيقة به، كما تؤكدها مذكراته الشخصية التي أملاها على الصحفيين اللبنانيين أنطوان فرنسيس وسركيس أبو زيد، بعد خروجه من سجن الاحتلال، ولم يسمح بنشرها خلال حياته – الأرجح مراعاة للاتفاق بين الفاتيكان و”إسرائيل” على شروط إطلاق سراحه – وقد نشرت هذه المذكرات بعد رحيله بوقت قصير.
منذ سقوط القدس الشرقية تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي مثَل المطران كبوجي تحدياً كبيراً لكيان العدو، فبحكم كونه مطراناً كاثوليكياً كانت له قدرة على التواصل مع جهات عالمية كثيرة، وتفنيد الادعاءات الصهيونية بأشكالها المختلفة، دينية كانت أم (إنسانية)، وغير مرّة حاجج مؤيدي “إسرائيل” الذين طلبوا بأن يتقبّل العرب وجود اليهود (المساكين الذين تعرّضوا للاضطهاد الغربي) بالقول لماذا يدفع العرب، من أراضيهم وبيوتهم وأملاكهم وحريتهم، ثمن جريمة ارتكبها الأوروبيون؟ لافتاً نظر محدثيه إلى أن الأمر – مع ذلك – لا يتعلق بلاجئين باحثين عن الأمان، ولو كان هذا إطار المسألة لأقاموا بيننا كما أقام قبلهم كثيرون من قوميات عدة، لكن إطارها كيان استعماري استيطاني يقوم على حقوق أبناء البلد الأصليين.
مسلسل (حارس القدس) الذي استوحى الاسم السرياني لعائلة المطران، ويعني بالعربية (الحارس)، نجح باقتدار بوضعنا في المناخ الزماني والمكاني والعاطفي الذي أحاط حياة المطران ببعديه الديني والوطني، مراعياً أصغر التفاصيل، ومستهلّاً حلقاته بشارة رائعة اجتمعت فيها بلاغة الشاعر الكبير يوسف الخطيب وبراعة التوليف الموسيقي لسمير كويفاتي، والأداء الساحر لميادة بسيليس، والعين المرهفة لباسل الخطيب التي أسبغت على المسلسل بأكمله ما وصف دائماً بالواقعية السحرية.
مع ذلك، فما سبق هو انطباعات عن المسلسل وليس تقييماً له، خاصة أن حلقاته لم ينته عرضها بعد، ولكن هذا لا يسمح بتجاهل الأداء المدهش والممتع لعدد من الممثلين يتقدّمهم (الكبوجيون): ربيع جان، وإيهاب شعبان، ورشيد عساف، الذين قدّموا ببراعة وتبنٍّ وتناغم الدور الرئيس فأشعرونا مجتمعين بأننا لم نكن أمام ثلاثة ممثلين، وإنما أمام ممثل واحد في مراحله العمرية المتتالية، وهو نجاحٌ يسجّل أيضاً للكاتب (حسن م يوسف) والمخرج.
وإلى جانب الدور الرئيس حظيت معظم الأدوار الثانية بأداء يستحقّ التقدير من نادين قدور واسكندر عزيز وآمال سعد الدين وصباح جزائري ويحيى بيازي وليا مباردي وسواهم.. وكذلك من الممثلين الذين أدّوا في الحلقات الأولى أدوار الراهب ومعلم المدرسة ومديرها ومدير الدير في القدس.
حُكي، وسيُحكى، عن الزمن الذي أُنتج وعُرض فيه (حارس القدس) وبعض أهمية هذا الحديث أنه يُذكّر بما يراد نسيانه، ومنه تلك الشخصية الأسطورية الرحبة التي تتجلّى كمثال ملهمٍ، وقد تجسّدت بجدارة في المطران السوري- اللبناني- الفلسطيني.. المقاوم.
إضاءات – سعد القاسم