ثورة أون لاين-يمن سليمان عباس:
ما إن يذكر الفرات الخالد حتى يقفز إلى الذهن الشاعر السوري الكبير محمد الفراتي وقصائده الخالدة في النهر الذي يهب الحياة للجزيرة السورية، تمر هذه الايام ذكرى وفاته، وهو الذي عاش الاغتراب الثقافي والفكري والنفسي، عاشه واقعاً مؤلماً ومراً، وجاءت أدوات الإرهاب المجرم لتدمر نصبه التذكاري في دير الزور , كما فعلت مع الكثير من الاوابد والآثار , لكنه باق وخالد في سجل الابداع وضمير السوريين والعرب , كيف ننساه وهو القائل في الفرات الخالد :
ذاك نهر الفرات فاحب القصيدا من جلال الخلود معنى فريدا
ذاك نهر الفرات ما إن له ند على الأرض إن طلبت نــــــديدا
باسماً للحياة عن سلسبيل كلمــــــــا ذقته طلبت الـــــــــمزيدا
جرعة منه في قرارة كأس تترك المرء في الحياة سعيـــــــدا
نحن قتلاه في الهوى وقديماً شفّ آباءنا وأصبى الجـــــــدودا
يعكس الدوح في الأصيل عليه أينما شمت ظلّه الممــــــدودا
وعلى الدوح للبلابل شدو هجن الشعر لحنه والـــــــــــنشيدا
يا جناناً على الفرات هي الخلـد لمن رام في الجنان خلـــودا
أنا لولاك ما طلبت لنفسي رغم بؤسي الحياة عمراً مــــــديدا
يا ليالي بالفرات استنيري وانفحي بالجمال هذا الــــــوجودا
قد شهدنا عرس الطبيعة لما أن لمحنا لواءك المعـــــــــقودا
منظر رائع يريك جلال اللــــــــه في مسرح الحياة فريــــدا
إيه يا بلبل الفرات ترنم فوق شطآنه وحي الــــــــــــــورودا
طلباً للعلم
تقدم الموسوعات الكثير عن حياته وابداعه، فحسب ما جاء في الموسوعة الحرة: وُلد الفراتي في دير الزور عام 1880، ودرس بمدرسة الرشيدية، ولما اكتشف معلموه حبه للعلم والتحصيل نصحوا ذويه أن يفسحوا له المجال لتنمية مواهبه، وإشباع رغباته في الاستزادة من الأدب، فاتصل بالشيخ حسين الأزهري حيث درس عنده علوم اللغة والنحو والفقه لمدة سنتين ولم يتوقف عند هذا الحد بل غادر دير الزور إلى حلب عام 1908 مستزيداً في طلب المعرفة فتابع دراسته على يد الشيخ محمد الزعيم وبعض علماء حلب المشهورين آنذاك.
لم تكتف نفسه التواقة للمزيد بهذا الحد بل غادر حلب إلى بيروت ومنها إلى يافا فبور سعيد فالقاهرة حيث استقر به المطاف في جامعة الأزهر عام 1911 وأقام برواق الشوام الذي كان عميده آنذاك الشيخ سليم البشري، وتتلمذ الفراتي على أيدي أئمة الأدب والفقه أمثال المرصفي والقاياتي وبخيت وتزامل الفراتي وهو يطلب العلم في الأزهر مع طه حسين وعبد القادر المازني وزكي مبارك وأحمد الكرمي.
وفي عام 1925 اندلعت الثورة السورية الكبرى وامتدت شرارتها إلى منطقة الفرات حيث كان الفراتي من اشد الداعمين لهجمات الثوار على القوات الفرنسية في المدينة، وعند ادانة الزعيم عيّاش الحاج من قبل سلطات الاحتلال بالتخطيط للهجمات وقيادتها وصدور قرار نفيه مع أسرته إلى مدينة جبلة كتب الفراتي
لئن فارق الليث الهصور عرينهُ على الرغم منه والزمان يجورُ
فقد كان وراداً لكل مخوفةً له في الأعادي صولةٌ وزئيرُ
مريرٌ على الأعداء صعبٌ ممنعٌ وحلوٌ على المستضعفينَ مزيرُ
مهيبٌ كنصل السيفِ، اما فرندهُ فصافٍ واما حده فأثيرُ
على إثر مواقفه الوطنية ضيقت سلطات الانتداب الخناق عليه وسرحته من الوظيفة ما اضطره لمقابلة وزير المعارف بدمشق لشرح وضعه والاعتراض على فصله، ولما شعر أن الوزير لم يستجب لشكواه أغلظ عليه القول واتهمه بالخيانة الوطنية وغادره إلى الشارع حيث نمى له بعض أصدقائه أن ثمة اعتقالاً ضده يبيته الفرنسيون فعاد إلى دير الزور مسرعاً حيث تخفى وغادرها إلى العراق في أواخر عام 1925 والتحقت به زوجته يرافقهما صديقه الشاعر عبد الجبار الرحبي.
لقد عاش طوال حياته يحلم برؤية علم الوحدة العربية يخفق فوق سماء العروبة فلم يترك فرصة إلا وخاطب فيها ساسة العرب وقادتهم حاثاً إياهم على إشادة صرح الوحدة،
ولأنه أمضى حياته متمرداً، فقيراً، فقد كان واقع الحال في مدينته لا يعجبه وكان يحرّض الناس على الثورة لا على الحكم فقط بل على كل شيء، وقد رأى فيه بعض الناس يسارياً وعلمانياً يسعى لتمزيق بنية المجتمع، يقول داعياً إلى الثورة على كل شيء:
أجاد الفراتي ثلاث لغات غير العربية هي التركية والفرنسية والفارسية، وقد استحوذت الفارسية عليه، فأنفق سنوات من حياته مترجماً، وفي عام 1959 عين في وزارة الثقافة السورية مترجماً من الفارسية إلى العربية، وقد ترجم عن الفارسية (كتاب كلستان، روضة الورد) وهو من الكتب المعدودة وذات الاعتبار كما يصفه هو نفسه، ونشرته وزارة الثقافة عام 1962.
كما ترجم كتاب (البستان) الذي يقع في أربعة آلاف ومئتي بيت من الشعر لسعدي الشيرازي، وترجم روائع الشعر الفارسي الذي طبعته وزارة الثقافة عام 1963 وهي مختارات لسعدي الشيرازي وحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي، كما ترجم الفراتي رباعيات الخيام وقواعد اللغة الفارسية وتعليمها بالعربية ووضع قاموساً فارسياً عربياً وترجم (حي تبريز) وديوان غزايات وبهارستان ونصيحة العطار، كما ترجم ما يزيد على ثمانية آلاف بيت من الشعر عن الفارسية.
مكرماً…
لم تنس سورية شاعرها الخالد، فمسحت عن وجنتيه غبار التعب والمعاناة، وكان أن كرمه القائد المؤسس الرئيس حافظ الأسد براتب تقاعدي مدى الحياة
وكذلك فعل اتحاد الكتاب العرب في دمشق في العام نفسه ، إذ أقام له حفلاً تتكريمياً كبيراً.
في 17 حزيران عام 1978 توفي الفراتي رحمه الله في مدينته دير الزور ودفن فيها بعد ثمان وتسعين عاماً مليئة بالعطاء
هذا وقد اعادت الهيئة العامة السورية للكتاب طباعة أعماله الشعرية كاملة العام الماضي.