ما بين تشرين الأول وشهر حزيران مسافة الحكايا والحنين، عطر القمح حين يبذر، ونضجه حين يحصد، بعد أول رية أو مطرة كما يقال في شهر تشرين الأول، كنت ترى المزارعين في القرى يستعدون لهطل ماء السماء ثانية، لتبدأ خلايا العمل بحراثة الأرض ونثر بذور القمح، على ضيق المساحات المزروعة في القرى، ومشقة الوصول إلى أعماق الوديان التي كانت تشكل مساحة كبيرة مما يزرع.
في تشرين الأول، كل أفراد الأسرة معنيون بالفلاحة والزرع، لكُلٍّ دوره، صحيح أن المحراث اليدوي الذي يُربط على دابتين هو الأساس، لكن الأكثر صحة أن معظم الأراضي التي تُحرث لم يكن متاحاً الوصول إليها لوعورتها وضيق مساحتها، لكن إرادة الحياة وفعل الخصب جعلت الفلاح يستغل كل شبر فيها، فالبذار حاضر، وحفر البقع الصغيرة بالفأس الصغير (المنكوش) من قبل الأطفال، كان كفيلاً بأن يُحيلها إلى قطعة من الجمال تخطها ضربات صغيرة برفق وأناة لتطمر حبات القمح التي ستغدو زاد الصيف والشتاء ورغيف الخبز.
مع كل شبر كنا نتأفف لماذا يصرُّ أبي على هذه القطعة الصغيرة قرب حافة النهر، وبالكاد يمكن لأرنب أن يمشي فيها؟ يبتسم أبي مشجعاً ويردف: لقد رأيت حلماً يقول إن علينا أن نزرع كل شبر من هذه الأرض، فثمة حبة قمح ستكون بركة الموسم، ولا ندري أين ستكون هنا أم بمكان آخر .. لنعمل على ألا يضيع تعبنا، وينجزالعمل على أكمل وجه وبكل شغف وحب.
لكن حكاية حبة القمح البركة لما تنته، لها فصولها التي يجب أن تكتمل، ليس المهم أن تزرع هذه الحبة، بل أن ترعاها فيما بعد وتتابعها بالسماد، واقتلاع الزؤان منها، والعمل على تهيئة كل أسباب النضج ليكون الموسم جيداً، تنتظر شهر حزيران حين يقرر رجال القرية أن موسم الحصاد قد حان، فليس لمزارع وحده أن يقرر ذلك، الجميع بمجلس القرية يفعلون، وعلى ضوء القرار سنكون على موعد في الخامسة فجراً للعمل حتى الثامنة أو التاسعة صباحاً، حسب درجة الحرارة والمنطقة المزروعة، وبعدها تكون القيلولة إلى فترة العصر.
في موسم الحصاد من ينجز عمله أولاً فلابد أن يمد يد العون والمساعدة لمن لما ينجز بعد أعماله، فمن الضرورة بمكان أن ينتهي الجميع بوقت متقارب حتى تُهيَّأ البيادر وتتسع للجميع وتنتظر موسم (الدرس).
ومع انحناءاتنا كحصَّادين مبتدئين تعود الجملة التي كانت تردد أثناء البذار: «انتبهوا لكل سنبلة، لا تدعوا شيئاً يُضيع البركة بسنبلة لا ندري أين هي، ونحرص على (سنبلة) كل ما يسقط منا ومن غيرنا»، ومع انتهاء الموسم تغمرك الفرحة بما ترى.. (مكادس) كبيرة من القمح على الرغم من صغر المساحات المزروعة..
تتذكر هذا الشغف بالحياة والعمل والقدرة على اجتراح الحلول بمهارات الآباء والأمهات، وتبكي وأنت ترى كل شيء متاحاً لمن يمكنه أن يفعل الكثير لكنه بعيد كلَّ البعد عن الفعل، الكل يبحث عن ثراء سريع، عن مالِ سُحتٍ لا يهم إن كان من يتيم أو عاجز.. دار الزمن دورة ليست منا، ولا فينا، ولسنا هكذا نحن السوريون، لا بد أننا في حلم عابر، لابد أننا في كابوس لسوف يمضي، ستتفجر فينا الأصالة التي أصابها الصدأ كثيراً، يقيننا أن ذلك قريب، وقد حان ذلك وهو ليس بأبعد من خطوات، لكن لابد من المضي إليه ونحن نردد:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. لكنّ أخلاق الرجال تضيق.
معا على الطريق – بقلم أمين التحرير – ديب علي حسن