ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم:
سيأخذ الجدل حول تعثّر الإسلام السياسي في نسخته المعاصرة، زمناً أطول بكثير مما استحوذت عليه ايديولوجيته الفكرية الإلغائية وتفرعاتها الجهادية والتكفيرية الوهابية، انطلاقاً من «قاعدته» التنظيمية،
وسيكون من الصعب على أي توصيف سياسي أو فكري في هذه المرحلة الإحاطة بالأبعاد الكاملة لتداعيات تجربته الفاشلة، ولن يكون وضع أي مصطلح يُطلق عليه أفضل حالاً، حيث الانعطافات السياسية الحادة لم تترك مجالاً للاستدراك ولا للتدقيق في اتجاهاتها، وهي تتقاذفها الاحتمالات المتناقضة.
ومع ذلك ثمة مؤشرات كانت تضع علامتها الفارقة على الحصيلة النهائية التي تحرك المشهد برمّته، ونحن نلمس انزياحاً سياسياً وفكرياً، تجاوز في بعض مراحله، حدود المسلمات، كما تخطى عتبات المسموح، وباتت المحظورات في كل الاتجاهات وجهة نظر، وفي بعضها أصبحت الخيانة والاستقواء بالأجنبي والدعوة إلى العدوان قضايا قابلة للنقاش.
على هذه القاعدة لم يكن من الصعب الفرز بين التطورات التي اعتمرت في جزء منها- ومنذ البداية–القلنسوة الإسرائيلية، وفي بعضها اعتمدت شارة رعاة البقر من أجل التمويه والرعاية، فيما الإسلام السياسي يرمي بألغامه السياسية والاجتماعية والدينية، ويتسلق منبر التكاذب السياسي كطريق يوصل إلى المنعطفات المنتظرة من أجل الاستدارة الأخيرة نحو استكمال خيوط التقاطع بين المشروعين الغربي والإخواني في المنطقة، بعد أن أشهرت أميركا مصالحتها مع الإسلام السياسي بوجهه الإخواني في قاع المحيط حيث ترقد – على ذمتهم – جثة بن لادن!!
وبدت المسائل الإشكالية العالقة منذ عقود طويلة مجرد اختلاف على الجزئيات، وتباين سطحي في الأولويات وتم التوافق على تأجيل البت بها، ريثما تتشكل الملامح وتأخذ مكانها في المشهد العائم داخل المنطقة، ولم تخفِ القوى الإخوانية نشوتها المبالغ فيها وتحركت من منطوق الانتقام السياسي الذي طفح الكيل بمعطياته، ورسمت حدوداً فاصلة بين مرحلتين، وقطيعة كلية مع ثوابت الأمة ومفاهيمها، وطغت على طروحاتها روح التشفي من القوى السياسية القائمة. وسط هذا التزاحم على المتغيرات، لم يتوقف الكثيرون عند النقاط المشتركة بين المشروعين الغربي بطابعه الاستعماري المستنسخ، والإخواني بوجهه المظلم والانعزالي الدموي، والتي بدت مقتبسة في الممارسة والدور من الأصل ذاته، ومارست القوى الإخوانية منطق النفاق ذاته الذي درج عليه الغرب، ولم تجد حرجاً في تقمّص الحالة والتعبير عنها في منهجها السياسي، وفي استدراج منظومة القيم ببعدها الإسلامي، لتكون متوافقة مع الأصول المنهجية الغربية في استلهام واضح وصريح لذلك النفاق وسحب الحالة لتكون شاملة لمختلف المنظومة الإخوانية.
اللافت أن الاستدارة القسرية التي حكمت على المشروعين كانت تتقاطع في مجملها عند النقاط ذاتها التي توافقت وأجمعت عليها منذ البداية، وبدت كرة الثلج المتدحرجة أصعب من أن تتوقف، وهناك من راهن وبالغ في رهانه على قدرتها على اقتلاع كل ما يصادفها، ووجهت سهام حقدها وغريزتها الدموية باتجاه محور المقاومة وحجر الرحى فيه، وقد استجمعت خلفها قوى النفاق من أصقاع الكون كله، ولم تتأخر في تجنيد مرتزقتها من جهات الأرض الأربع تحت عناوين تتلون حسب الحاجة والغاية.
ولا نعتقد أنه كان من الصعب أن يدرك أي متابع بأن محاولة اقتلاع هذا المحور في نهاية المطاف هو الغاية النهائية والهدف الاستراتيجي الذي ضحّت في سبيل الوصول إليه القوى الغربية والعميلة لها بكثير من أدواتها المتعايشة معها على مدى عقود خلت، واستدرجت معها بغفلة منها حيناً، أو بقلة إدراك حيناً آخر، الكثير من طبقات المثقفين أو مدعيها وحاملي مشاريع الحداثة السياسية بوجهها الغربي .
حيث التبست على تلك الطبقة برموزها وروادها الحالة ووقفت تتفرج على الكرة المتدحرجة، ولم تلحظ ما يعلق بها، وما ينكشف فيما تخلفه وراءها.
فتناست خلافاتها مع الغرب الاستعماري وتجاهلت تناقضاتها مع الإخوانية، وتغاضت عن التعارض الحاد واصطفت يميناً ويساراً تبارك هذا التوحد بين المشروعين، وبعضها لم يبدِ حتى استغرابه أو عجبه من هذه التركيبة الغريبة مابين اليساري والشيوعي من جهة والإسلامي المتطرف من جهة ثانية ، ولم يجد بعضهم حرجاً في الجلوس أمام منابر المساجد، وفي باحاته، فاجتمع عليها وحولها القادم من أقاصي تورا بورا مع المقيم على شرفات اللوفر، وتشابكت أيادي متطرفي القاعديين مع أتباع الغرب ومريديه وهواة مصالحه ومحترفي أطماعه.
المنعطف اليوم ليس صحوة، ولا هو استدارة، بل انكسار تشكلت ملامحه بوضوح حين عجز الغرب عن تحقيق ما جمعه مع الإخوانية، وعندما فشل في تمرير ما كان يعمل عليه طوال الوقت، وحين جاءت لحظة المصارحة كان الافتراق ليس بسبب الاختلاف على تقاسم المغانم التي تتلاشى، بقدر ما هو تهرّب من تحمّل التبعات وتقاذف للمسؤولية بعد الافلاس المزدوج لكلا المشروعين، وكل بطريقته وأسلوبه فالإخواني لم يكن بمقدوره أن يستوعب الصدمة فاستل أدوات إجرامه، بينما الغربي بمهاراته في المراوغة، وتجاربه العديدة في الانكفاء، حين تلوح الهزيمة، يقف خلف ستار من الاحجيات والألغاز في الموقف، كما هو في المنهج.
a.ka667@yahoo.com