الثورة أون لاين – علي الأحمد :
مع تعثّر مسارات الحداثة في موسيقانا العربية المعاصرة، كان من الطبيعي جداً أن ينعكس هذا النكوص على طقوس وعادات التلقّي والتذوّق، حيث بدأت نتاجات العولمة الموسيقية، تأخذ حيّزاً كبيراً وعميقاً، من التأثير السلبي على ذائقة الأجيال، سواء أكان ذلك عبر الإيقاعات الصاخبة الرخيصة المنتشرة اليوم بشكل هستيري، أم عبر نوعية الغناء الرديئة التي توقظ الغرائز الحسّيّة المكبوتة لدى قطاع كبير من الشباب والمراهقين، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعدّ أو تحصى، خاصة مع غياب التربية الذوقية والجمالية في مجتمعاتنا العربية العتيدة، التي وصلت إلى مرحلة الافتتان والانبهار بكل ما هو غربي وشاذ، حتى وإن كان ذلك على حساب الهوية والشخصية الثقافيّة الوطنيّة.
وتلعب الموسيقى الجديدة التي تعتمد التكنولوجيا في كثير من تفاصيلها وتجلّياتها الذوقيّة المغايرة دوراً لا يستهان به في إعادة تشكيل وقولبة هذه الذائقة، وخاصة كما أسلفنا، لدى جيل الشباب، الذي تحرّكه الإيقاعات الراقصة الصاخبة، وزعيق الآلات الموسيقية المكهربة، وتلك الأصوات العالية الضجيج من مكبّرات أو مضخّمات الأصوات وغيرها التي تفتقد بطبيعة الحال إلى جمالية الأصوات الطبيعية للآلات الموسيقية.
هذه الموسيقى الجديدة والمغايرة كلياً لمسارات الإبداع في الموسيقيات القديمة، باتت تتسيّد المشهد المعاصر وفي أغلب موسيقيات الشعوب ،وفي هذا دلالات فكرية واجتماعية لم تعد تخفى على أحد، تلعب على صياغتها وقولبتها منظومات رأسمالية مؤدلجة، باتت تسيطر على أغلب شركات الإنتاج والإعلام والإعلان في العالم، ترسم خرائط جديدة كلياً، لمسار الكتابة والتأليف والممارسة، وبالتالي التلقي، وعادة ما يكون هنا السلبي، حيث تغيب الجوانب والبُعد الروحي عن أغلب النتاجات المعاصرة، ولهذا أكّد أحد الباحثين في الغرب “أنّ الموسيقى الجديدة التي يبتكرها الإنسان لا قيمة لها لأنها لا مكان لها في العالم الروحي” .
نعم تسير الموسيقى المعاصرة ،نحو مزيد من التطرّف والعبثية والمجونية، تكتب حضورها بقوة المال الفاسد ،سليل حركات تدمير الموسيقى ،وصناعة النجوم العابرة ،وحركات” الدادا” الموسيقية التي تنتشر في العالم بما تنتجه من متاحف متنقلة للقبح والرداءة والسطحية.
وهنا لا بدّ من القول إنّ الموسيقى كعلم وفنّ ليست بمعزل أبداً عن المتغيرات والمسارات التجديدية فهي ليست نظاماً صوريّاً لا يجوز تجديد بنيته الفكرية والمعرفية، بل على العكس يعتبر هذا الفن الإنساني العظيم من أكثر الفنون قابلية للتجديد والتحديث المستمر شريطة أن يكون ذلك بطريقة علمية منهجية تفضي إلى إعادة بناء حقيقية ،وليس إلى إعادة طلاء وهمية مزعومة ،”لاتسمن ولا تغني” ،ولهذا تعيش الموسيقيات وموسيقانا من بينها ،حالة انفصام معرفي ،وتزداد الهوّة السحيقة بين الأجيال لأن المسير الحداثي لم يلحظ هذا الجانب المعرفي، إلا بحدود ضئيلة بسبب عوائق وموانع كثيرة، وهو ما فتح الباب واسعاً، لدخول التقانات والادوات والأفكار التجارية الاستهلاكية، إلى قلب الحياة الموسيقيّة العربية ،وبالتالي مزاحمة العناصر الوطنية وتهميشها، عبر تغير عادات الاستماع والتلقي، وغياب مؤسف للتربية الجمالية حيث الاجيال الفتية لا تجد أمامها إلا هذه الموسيقى التجارية البائسة، التي تشكّل وعيها وذائقتها على وقع صعود الصورة والأغنية الحسية المريضة التي تُعلي من الغرائز المكبوتة بفعل التكرار والتعود ،حيث تغيب أو تُغيّب الموسيقيات الراقية عن المشهد الإعلامي – إلا ما ندر- لتبقى موسيقانا تدور في فلك الاستهلاك والتقليد الممجوج ،الذي يحدّد سمت وبوصلة التذوق تبعاً لسطوة وذائقة الشركات التجارية، التي باتت بين ليلة وضحاها قيّمة على ذائقتنا وخياراتنا الجمالية بشكل فيه الكثير من التعسف والقسر، حيث المتاح دائماً للمتلقي العربي ،هذه النوعية الرديئة الكئيبة من الأغاني والألحان المستنسخة، التي تشبه بعضها، والتي يتبارى” مصنّعوها” على نشر العري الأخلاقي والتربوي قبل الجسدي، وهذا حديث يطول حيث يقول الباحث الدكتور “جابر عصفور ” : …ولا أزال أرى التحدي الحقيقي الذي لا بدّ من مواجهته اليوم في عالم التخليط والقمامة ،هو التمسك بالقيمة والاحتفاء بها ،حينما وحيثما وجدها ،لعلّنا بهذا التمسك نعيد الوعي النقدي إلى سوائه ،ونواجه فوضى القيم التي تخلط بين الكبار والصغار ،أو بين المبدعين الأصلاء ،ومدّعي الإبداع من الطفيلين الذي تكاثروا كالوباء، ولن ينجو الواقع الإبداعي منهم إلا بتسليط الضوء عليهم ،والعودة إلى الجذر الأصلي لمعنى النقد عند العرب ،وغيرهم ، وهو التمييز بين الجيد والرديء من ناحية ،وملاحظة درجات الجودة في حال وجودها، مقابل صفات الرداءة في أحوال تكاثرها في حياتنا من ناحية موازية.