مثلما غادر الفرح وطني مع أرواح الشهداء، غادرت أنت حياتي، كم انتابت أيامي زفرات، خلتها سكناً لروحي، لكنها لم تكن سوى زفرات.. تخرج من رئتاي اللتان قابلت رئتاك الموجوعة، وأنت تحمل زفراتك وشهيقك عبر جهاز من صنع البشر.
جهاز يعينك على ترميم نقص أنفاس الحياة لكنك بقيت كما عرفك الناس وكل من عاشرك في عمرك الماسي، ظللت كما السنديان شامخاً لا تهرم ولا تشيخ.. كيف لا وأنت من خاض حرب تشرين في صبوة شبابك عريساً ونلت أوسمة فخر بها أبنائك.
اليد التي كتبت الدواء ليشفى بإذن الله الآلاف خلال خمس وثلاثين عاماً وتزيد، سماعة الحكيم التي اكتشفت وداوت آلاف القلوب ركعت أمام قلبك عاجزة عن منحه ضخة أخرى تزيد في عمرك ساعات كيف لها أن تحتمل عدم سماع دقات قلبك، لم تسمع سوى نحيب المونيتور على الطبيب الجليل لم بكرت ياشيخ الأطباء.
لم تنحن السنديانة ولم تطأطئ شموخها، لكن الموت غلاب فارتمت من طولها لتعانق التراب فمنه خلقنا وإليه نعود، ليتك بيننا لتسمع ما يتحدث الناس به عنك، قد نلت منه شيئاً في حياتك، وهذا أقل حقك.. ليتك بيننا لتقرأ ما قيل فيك شعراً، عن مناقبيتك وخلالك، ليتك بيننا لتسمع نحيب الرجال على فراقك.
يظن البعض أن الصالات المغلقة وحدها تجمع الناس لبث وإشهار مشاعرهم حول من يفقدون، وأنها الوحيدة القادرة على جمع المحبين، ليتقدموا بمراسم العزاء.
ما حدث أيا سنديانة داري على وسائل التواصل الحديثة، من اشتعال إن برثائك، أو حزناً على فراقك.. يفوق الخيال، كل صالات التعازي لن تتسع للآلاف التي بكتك، من كل أطراف الدنيا، ما حدث لا يمكن جمعه تحت سقف مسجد أو صالة عزاء.
رجل ولا كل الرجال.. فارس ترجل عن حصان النبالة، لم يغلبه يوماً مرض.. الموت وحده غلبه، ترى يوم انتقى لك والدك الاسم تيمناً بالمناضل فارس الخوري، رسم لك حياة الفروسية التي مارستها طبيباً استثنائياً.. كما تحدثت ألسنة الناس عنك سيوف الحق تلك.. نعتك فارساً لا يتكرر.
لم يغلق الباب يوماً بوجه أحد، من ليل أو نهار، لم تحدد لذاتك ساعة راحة فالعمر مرهون لمحتاجيه.. أسموك طبيب الفقراء.. بلى والله صدقوا، فزكاة عيادتك كانت تصرف يوماً بيوم، أيقنت أن في كل منزل عرفك كان لك عزاء.
خاصة من زرعت بينهم سنوات ثلاثين من مقتبل عمرك، في تلك المدينة الغافية على كتف الفرات تتهادى على الحدود الشرقية في كل دار لك بصمة ومع سني عمر كل فرد فيها لك وصفة.
على كل طاولة صلح كان لك حكمة، وفي مشية كل عرس أو لخير لك كلمة محببة يتحدثون دوماً وجهاء البلد، كنت وجيهاً للخير، حكيماً للصحة رجلاً للمحبة والوئام.
تعلمت من سيرة والدي أن طول العمر ليس في سنوات الحياة على الأرض، بل في تربع سيرة المرء على عرش الذاكرة، فكم من الأموات اليوم يسيرون على أقدامهم.
كم غمرني الخالق بلطفه وعطفه حين أكرمني بزوج مثل أبي، كلاكما كنز لا ينضب، أم عطاء سخي من كرم الخالق، يرافق أولادي وأحفادي كما رافقني وإخوتي بامتداد سيرة والد فخرت به ولا أزال أني ابنته.
الآن يفتح كنزك أبا عبد الله، زوج زرع الخير حيثما وضع يداه. وكلما صاغت الأبجدية من فمه حروف جملة صارت حكمة ومع كل موضع قدم على باب مريض، كنت بلسماً بإذن الله ومع إصلاح كل ذات بين لمن عشنا معهم ثلاثة عقود ونيف من صبانا كانت المحبة تعرش بين القلوب.
كم يفخر اليوم أبناؤك وأحفادك بأن لهم أباً ربّى فأحسن، وعاش فأورق وغاب ليترك غلال ثمره يانعاً، لا تتسع لها سلال الدنيا كلها.
لكنها حقيقة الحياة التي لا نكران لها وعدالتها الوحيدة في الموت.. الموت فقط.
إضاءات – شهناز صبحي فاكوش