الثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
“عندما يبدأ الناس في قتل أحدهم الآخر، فإنهم لا يتراجعون أبداً إلى الوراء”. حتى وإن انتهت الحرب، يتابعون اقتتالهم بحقد ووحشية، فلكلٍّ منهم شريعته وقانونه الخاص الذي يفرضه على خصومه، ممن ينفذ فيهم عقوبة القتل دون أن يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، معتبراً أنه المنتصر الذي يحق له تنفيذ الحكم الذي يليق بمكاسبه الدموية.
هذا مختصر ما أراد الكاتب الإيطالي “أليساندرو باريكو” قوله في روايته “بلا دماء”. الرواية التي أظهر فيها كيف تسعى العصابات المسلحة إلى قتل الأسر والتمثيل بها وإحراق منازلها وممتلكاتها. الأسر التي منها أسرة الطفلة “نينا” بطلة الرواية التي سارع والدها لإخفائها في مكانٍ، شعرت فيه بالطلقات التي تم بها تصفية أسرتها:
“شعرت نينا بالطلقات وهي تخترق المنزل من فوقها، وانطلقت بعد ذلك طلقات أخرى متتابعة لمدة أطول. فتحت عينيها، أخذت تنظر إلى الفتحات الضيقة فوقها، أخذت تنظر إلى الضوء والتراب الذي يتساقط من بينها، ومن حين لآخر كانت ترى ظلًّا يتحرك، كان ذلك ظلّ أبيها”.
هو مختصر، لكن الواقع شاسع في استدعاء تفاصيله. الواقع الذي نعيشه وجسدته الرواية التي تبحث عما نبحث عنه، بعيداً عن التاريخ وما فيه من تكرار يدينه.
تبحث، عن الأمان والطمأنينة والسلام والمحبة والإنسانية، في عالمٍ أغرقته الأحقاد والحروب في الجحيم الذي يحتاج إلى يقظة عقول، تخمد اشتعالات الحياة وما فيها من اقتتالات همجية.
إنه ما تبحث فيه الرواية، التي يبدو واضحاً بأنها تدعو إلى جعل الوعي الإنساني، يواجه هذا الجحيم الواقعي. الجحيم الذي أحال الأرض إلى ساحات للحرائق والقتل وإراقة الدماء.. للخوف والترقب والألم الذي يتفاقم مع تفاقم أعداد القتلى وأنينهم، وهو ما يغرق الذات والمحيط بعبثيةِ الوجود القائم على الدم والشظايا والأشلاء.
تغرق الذات، وتتداعى ذاكرتها بما فيها من صورِ التوحش التي في الحياة. تحاول أن تهرب منها، فتأبى إلا أن تؤرّقها.. تتقدم مشاهد الموت حرقاً أو ذبحاً أو شنقاً. تليها مشاهد أخرى لحاضرٍ أكثر نزفاً..
الحاضر الذي يشهد ويلات الحرب، فتتحول ذاكرته إلى مرآةٍ تعكس كل ماشهده من صور مشوهة بنيرانها ودمارها.. بعظام ورؤوس وأشلاء إنسانها..
كل هذا يُحفظ في الذاكرة، حتى وإن بهتت أو هرمت. ذاكرة الطفلة التي التقت في نهاية عمرها بأحد الذين شاركوا بإبادة أسرتها وإنقاذها، دون علم رفاقه بمخبئها.. الذاكرة التي احتفظت بصور الجحيم التي أبقتها في حالة وعي، لاكتشاف ما يستدعيها إلى الصمت بحثاً عن أحلامٍ لا تحترق، وإنما تخمد حرائق عالم ترجوه “بلا دماء” وبلا عودة للاقتصاص اللامجدي.
لا شك أنها أحلام ما بعد الحرب.. ما بعد الانتصار المزيف للجبهة التي تقتل أكثر.. للجحيم الذي يتلظى فيه الفقراء والبسطاء.. للمعاناة التي تجعل كل الأطراف المقتتلة تنبش في ذاتها بحثاً عن لحظة حبّ ليس فيها شرّ أو بغضاء.
ببساطة، إن ما أراده “باريكو” من روايته، أن يسمع كل العالم رسالته. الرسالة التي تقول بأن جميع الحروب التي تشنها البشرية، هي من الشرور المعادية للإنسان والإنسانية.. الشرور التي يوسوس شيطانها لقوادها بأن يستعدوا لإيقادها.. لقتال من يفتخرون بالنصر عليهم، دون أن يكون لديهم سبب لقتلهم أو إبادتهم.
هو التلاعب بمصائرنا عبر حربٍ، لأن لا مبرر لها أو سبب لإيقادها: لا بد من قول ما قاله الكاتب على لسان بطلته، وبسؤالها:
“من أين يأتي ذلك الإيمان العبثي بضرورة تلك الحرب البشعة.. أصبح إهدار الحياة سهلاً، كأنه إغلاق منزل ما أو نافذة، الجميع يقتلون كأن أهدافهم أشجار أو ألواح خشبية..”.