الثورة-مها دياب:
في زمن باتت فيه المعرفة تستهلك بسرعة، وتختصر في مقاطع قصيرة، يبرز سؤال جوهري هل ما نراه ونسمعه يكفي لنفهم؟ وهل يمكن أن تحلّ السرعة محل العمق، في ظل هيمنة الإنترنت وتوفر آلاف الكتب والروايات بضغطة زر؟

يبدو الكتاب الورقي وكأنه ينتمي إلى زمن آخر، لكن الحقيقة التي تتجلى في تجارب القراء أن الورق لا يزال ينبض بالحياة، وأن العودة إليه ليست فقط خياراً معرفياً، بل حاجة إنسانية وجدانية وروحية.
شعور الورق
تقول زينة الخطيب طالبة جامعية قسم بيولوجيا، لا أرى في الكتاب مجرد صفحات بل حالة شعورية كاملة، بالنسبة لها رائحة الورق ولمسه يخلقان تجربة حسية، لا يمكن تعويضها، تقول: إن قراءة رواية حالات حرجة عن الثورة السورية لهادي العبدالله جعلتها تشعر وكأنها تعيش الأحداث، لا فقط تقرأ عنها، وتضيف أن الكتب النفسية والاجتماعية تفتح نوافذ لفهم الذات والآخر، وتمنح القارئ فرصة للتأمل في دواخله، بعيداً عن ضجيج الشاشات.
طعم المعرفة
أيضا سهى كوجان إعلامية، عبرت عن مدى محبتها لأخذ المعرفة من كتاب ورقي، حيث للقراءة طعم مميز، لا يمكن أن توفره الشاشات، ترى أن القراءة الورقية توسع المدارك، وتغذي الخيال، وتمنح تركيزاً أعلى، بالنسبة لها الكتاب هو سرّ نهضة الأمم، لأنه يعلّم القارئ كيف يفكر لا فقط ماذا يعرف، وتضيف أن الكتاب الورقي يفرض على القارئ احتراماً للمعلومة، لأنه يتطلب وقتاً وجهداً، ويخلق علاقة وجدانية بين القارئ والنص.

ذاكرة الرؤية
ومن جانب آخر بينت لين حجازي طالبة في كلية المعلوماتية، بأن الكتاب يشكّل رؤية ووسيلة لتعلّم الأشياء المميزة، وترى أن ذاكرة القارئ ترتبط بالكتاب الملموس، وأن السعادة بالموضوع تتضاعف حين يقرأ من صفحات حقيقية. و تعتبر أن الكتاب يعلّم بطريقة مختلفة، ويترك أثراً طويل الأمد في الذاكرة، لأن القارئ يتفاعل معه جسدياً وعقلياً، ويحتفظ بصورته في ذهنه لا فقط بمحتواه.
فلسفة الإمساك
بينما بالنسبة لعبادة طيفور في السنة الأولى عمارة، يجد أن للكتاب الورقي شعور خاص وإمساك مختلف، وجوده في المكتبة يضفي عليه قيمة فلسفية ويمنحه حضوراً مادياً لا يمكن تعويضه، كما يثمن تبادل الكتب العلمية والفلسفية كوسيلة لتوسيع الأفق وتبادل الرؤى، ويرى أن الكتاب هو مساحة للتأمل المعماري والفكري، وأنه يمنح القارئ فرصة لفهم البنية الفكرية للنص، كما يفهم بنية المبنى.
طفولة القراءة
أما مصممة الأزياء عزة جويجاتي، ترى أن القراءة تبدأ منذ الطفولة، وأن الكتاب هو أول أداة تشكيل للخيال والذوق، وتحدثت عن أهمية وجود كتب أطفال مختارة بعناية، وتطالب بفعاليات مخصصة لهم، لأن الطفل الذي يعتاد على الورق سيكبر وهو يحمل احتراماً للمعرفة، وتضيف أن الكتاب الورقي يمنح الطفل إحساساً بالانتماء، لأنه يربطه بالزمن ويخلق لديه ذاكرة ملموسة.
ذكرى ملموسة
و في تعبير عن مدى تعلقها بالكتاب، تقول ندى الطباع طالبة حقوق، لدي إيمان بأن الورق يمنحني ذكرى ملموسة لا توفرها الشاشات. و ترى أن القراءة الورقية أقل إرهاقاً للعين، وأكثر ارتباطاً باللغة العربية والهوية الثقافية، و أن الكتاب الورقي هو وسيلة لحفظ اللغة والوجدان، وليس فقط لنقل المعرفة، وتضيف أن الكتاب يخلق علاقة وجدانية بين القارئ والنص، لأنه يمسك ويقلب ويحتفظ به لا يمرر وينسى.
أثر التدوير
وفي هذا السياق تحدثت شهد أبو رشيد طالبة بكالوريا عن أثر تدوير الكتب، وكيف يمكن لكتاب متبادل أن يترك بصمة في حياة قارئ جديد، و تجد أن لكل كتاب قصة، ولكل قارئ أثر، وأن تبادل الكتب هو تبادل للحكايات والذكريات، وليس فقط للمحتوى، وتضيف أن الكتاب الورقي يحمل آثار من قرأه قبلك من طياته من تعليقاته، من طريقة حفظه، وهذا ما لا يمكن أن توفره النسخة الرقمية.
مساحة تطوير
و أكد المدرب الإداري بسام رجب أن الكتاب يمنح القارئ مساحة كاملة، ومعلومة تظل مخفورة في الذاكرة، و يعتبر أن الكتاب هو أداة إدارة وتخطيط، وليس فقط وسيلة للقراءة ،يؤمن أن التطوير ممكن بأقل الإمكانيات وأن القراءة الورقية تعيد للناس قدرتهم على التركيز، والتحليل، والتفكير المنهجي، ويضيف أن الكتاب هو وسيلة لبناء الذات لأنه يعلم القارئ كيف ينظم أفكاره ويخطط لحياته.
أهمية الكتاب
وفي لقاء مع الكاتب إبراهيم كوكي مدير إعلام دمشق، حول رؤيته لفكرة تبادل الكتب والدعوة للقراءة عبرها،
أكد أنها حجر الأساس في بناء الحضارات بالإضافة لأهميتها المعرفية والتوثيقية، ويقول: الثقافة ليست ما نراه أو نسمعه بل ما نقرؤه.. الكتاب هو أول معلم وأول مصدر من مصادر الحضارة، لا يمكن مقارنة وسائل التواصل بالكتب لأنه المرجعية الأولى، كما أن التحول من الورق إلى الرقمي خلق فجوة معرفية، حيث باتت الثقافة تستهلك عبر مقاطع قصيرة لا تتيح التأمل أو الفهم العميق، ويرى أن الكتاب يعلم الصبر ويمنح القارئ فرصة لفهم السياق وتحليل الفكرة والتفاعل معها، ويضيف أن الكتاب هو مساحة للخيال ومرآة للذات وجسر نحو الآخر.
رواية الأجندة
وبسؤالهن عن روايته الأجندة، نشرت الرواية عام ٢٠٢١ واعتبرت مرجعاً بعد التحرير لأنها توثق مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا ما بين 2003_ 2010، الرواية تتناول أربعة ملفات حساسة: اغتيال رفيق الحريري، وتفاصيل الملف السياسي والديني المرتبط به، أحداث مخيم نهر البارد، وما زرعته من تحولات في الفكر الإسلامي سجن صيدنايا عام 2008 وتمرد المعتقلين، وأسرار الاستنفار الذي استمر لأشهر والتحولات السياسية والدينية التي سبقت الربيع العربي وكتابتي لها جاءت بأسلوب حكائي توثيقي؛ يجمع بين الشخصيات الحقيقية وشهادات العيان ويقدم سرداً متماسكاً للأحداث من مصادر متعددة، يقول إبراهيم: الرواية ليست فقط حكاية بل وثيقة للأجيال جمعت بين الخطوط المتباعدة وربطتها بخيوط وثيقة لتكون مرجعاً لفهم ما جرى وما يمكن أن يحدث وما يلفت النظر في تجربة الأجندة أن جميع النسخ الورقية بيعت، رغم أن الرواية متوفرة إلكترونياً، أيضاً النسخ المشاركة بفعالية “شارك كتابك” استنفدت كلها، وهذا الإقبال الكبير على النسخة الورقية رغم توفرها مجاناً أو بسعر رمزي عبر الإنترنت، يدل على أن الناس لا تزال تحب الكتاب وتفضله على الشاشة لأن الورقي يمنح القارئ إحساساً بالامتلاك ويخلق علاقة وجدانية معه ويصبح جزءاً من مكتبته ومن ذاكرته.
العودة الضرورية
القراءة من الورق ليست عادة قديمة بل فعل مقاومة في وجه التشتت، وفعل استعادة للتركيز وللخيال وللصوت الداخلي الذي لا يسمعه أحد سوانا.
الكتاب يعلمنا أن المعرفة لا تستهلك بل تبنى، أن الفكرة لا تمرر بل تناقش وأن الزمن لا يُختصر بل يُعاش ورغم توفر آلاف الكتب والروايات إلكترونياً لا يزال الناس يبحثون عن الكتاب الورقي يمسكونه كأنه كنز يحتفظون به كأنه أثر يهدونه كأنه رسالة هذا ما أثبتته اللقاءات التي جرت ضمن فعالية “شارك حياتك” التي تقام برعاية وزارة الثقافة وبالتعاون مع فريق هذه حياتي في المكتبة الوطنية في دمشق، والكتب المعروضة تشكل حوارات مفتوحة بين القارئ والكاتب بين الورق والوجدان بين الماضي والمستقبل.