الثورة- ميساء العجي:
في كل صباحٍ ينهض مع خيوط الفجر، قبل أن تستيقظ المدينة على ضجيجها المعتاد، هناك رجال يسبقون الضوء إلى الشوارع، يخلّفون وراءهم أثرًا من النظافة و النظام والنقاء. إنهم عمّال النظافة، أول من يفتح عينيه على وجه دمشق وآخر من يغادره.بينهم يقف محمد إسماعيل شتيوي، ابن الثالثة والخمسين، واحد من أولئك الجنود الذين صنعوا من العرق وسامًا ومن التعب شرفًا.منذ عام 1997، يعمل شتيوي في مهنةٍ لا يعرف فيها الكسل طريقًا. أكثر من ربع قرن قضاه في كنف الحاويات والشوارع، يعرف زوايا المدينة كما يعرف كفّه.
يقول بابتسامة متعبة:تعوّدت على صوت المكانس قبل أصوات السيارات، وعلى ضوء الفجر قبل الشمس نفسها.يبدأ دوامه قبل السادسة صباحًا، يلفّ الشوارع بخطواتٍ يعرف إيقاعها جيدًا، ويكنس الأرصفة وكأنّه يزيح الغبار عن قلب المدينة. يضيف: المهنة صعبة، ولها كرامتها. ويضيف الشغل بالنظافة مو عيب، العيب إنك تترك وسخ وتمرّ كأنو مو شايفك. عائلة تفخر رغم التعبشتيوي أب لثلاثة أولاد. الكبير يعمل في مجال الأبنية، والبنت أنهت دراستها في كلية التربية – قسم معلم صف – لكنها ما زالت تبحث عن فرصة عمل تليق بجهدها، أما الصغير فما يزال على مقاعد الدراسة.حين يُسأل عنهم، يلمع الفخر في عينيه أكثر من أي تعب يقول شتيوي أولادي هم رصيدي. اعمل من أجل أن يكونوا أحسن مني، لا أريدهم أن يعرفوا التعب و الحاوية أو حرّ الزفت. ويضيف بصوتٍ منخفض،لا ينقصني شيء إلا أن الناس تحترم عملنا ولا ترمي بعد تنظيفنا الطريق وذكر باللغة الدارجة . “نحنا مو بس عمال نظافة ، نحنا سبب إنو المدينة تضل نظيفة وجميلة.” التقدير المجتمعي حاجة إنسانيةتقول المرشدة الاجتماعية ميسون الهديوي التي عملت على دراسات تتعلّق بالعمالة العامة وشؤون العاملين ، إنّ العامل الذي يشعر بالتقدير يؤدي عمله بطاقة مضاعفة.وتوضح الهديوي أن الجانب النفسي لعمّال النظافة مهم جدًا، لأنهم يواجهون نظرة مجتمعية قاسية أحيانًا. رغم أنهم يقومون بعمل أساسي للحياة اليومية، إلا أن بعض الناس يتعاملون معهم بتجاهل أو استعلاء، ما يخلق لديهم شعورًا بالغبن.وتضيف الهديوي أن الوعي بأهمية الدور الذي يقوم به عامل النظافة يعزّز الانتماء المجتمعي. فالنظافة مسؤولية مشتركة، تبدأ من البيت وتنتهي بالشارع. كلّما شعر العامل بأنّ عمله مقدّر، كلما ازداد التزامه وإخلاصه به .وترى أن تكريم هؤلاء العمال بين فترة وأخرى ليس مجرّد إجراء شكلي، بل دعم نفسي ومعنويّ يرفع من قيمة العمل الشريف، ويغرس ثقافة احترام المهن البسيطة بين الأجيال الجديدة. نظافة دمشق مسؤولية حسن الرشيد عضو في جمعية بيئية يؤكد أن نظافة دمشق مسؤولية مشتركة،وعمال النظافة يعملون بشكل يومي على تنظيم دوامهم وتوزيع المهام بما يضمن نظافة الأحياء كافة، رغم التحديات. موضحا أنه لدينا في دمشق أعداد كبيرة من عمال النظافة موزعين على مختلف القطاعات. يعملون ضمن نظام دقيق يبدأ من الفجر حتى المساء، ويُعاد توزيع الفرق وفق ضغط العمل والمواسم.وأشار الى أهمية البرامج التوعية المدرسية والمجتمعية، ذلك لان النظافة العامة مسؤولية الجميع، ولا يمكن تحقيقها بجهود العمال فقط، بل بتعاون الأهالي والمحال والمؤسسات.ويضيف الرشيد.
نحن نواجه صعوبات تتعلق بنقص بعض الآليات القديمة وازدياد حجم النفايات اليومية نتيجة توسع المدينة، لكن رغم ذلك نحافظ على وتيرة عمل مستقرة بفضل إخلاص العمال الذين لا يتوانون عن أداء مهامهم في كل الظروف.مدينة لا تنام إلا نظيفة مع غروب الشمس، حين تخفّ حركة المارة وتغلق المحال أبوابها، يبدأ فريق آخر من العمال جولاته الليلية. وتبدو المدينة مختلفة في تلك الساعات، ساكنة ووديعة، وأصوات المكانس تشكّل موسيقى خفيفة تمتزج بنسيم المساء.يقول محمد شتيوي وهو يجمع بقايا اليوم في إحدى الساحات:”الناس ما بيشوفونا غير لما بيشوفوا الأوساخ.”؟!نتمنى أن تبقى المدينة بأجمل حالاتها، وعندما تصبح نظيفة، نرتاح وننسى التعب.و اضاف انه رغم البساطة في كلماته، إلا أن فيها فلسفة عميقة تُختصر بها حكاية مهنة بأكملها؛ مهنة تُمارس بصمت، لكنّ أثرها يملأ الشوارع ضوءًا ونقاء.تكريم العمال.. واجب وطني الرشيد دعا إلى مبادرات تكريم موسّعة تشمل جميع القطاعات الخدمية، وعلى رأسها عمّال النظافة، الذين يواجهون العوامل الجوية الصعبة من حرّ وبرد وغبار، ليبقى وجه دمشق مشرقًا كما يليق بها.وأكد أن مديرية النظافة تعمل على تحسين ظروف العمل وتوفير مستلزمات الوقاية والسلامة قدر الإمكان، إلى جانب برامج التوعية الميدانية التي تذكّر المواطنين بضرورة احترام الجهد الإنساني خلف كل شارع نظيف.