الثورة- مها دياب:
في خضمّ الجدل الشعبي الواسع الذي أثاره قرار الحكومة السورية الأخير برفع أسعار الكهرباء، تتصاعد الأسئلة حول جدوى هذا القرار، وتداعياته على المواطن، والبدائل الممكنة لإنقاذ قطاع الطاقة من الانهيار.
وبين من يراه خطوة إصلاحية لا بد منها، ومن يعتبره عبئاً جديداً على كاهل الطبقات الفقيرة، تغيب في كثير من الأحيان القراءة الاقتصادية الرصينة التي تتجاوز ردود الفعل العاطفية، وتغوص في جذور الأزمة، وتفكك منظومة الدعم، وتطرح رؤية إصلاحية واقعية متوازنة بين العدالة والاستدامة.
في هذا السياق، نستعرض تحليلاً اقتصادياً شاملاً يقدّمه الخبير الاقتصادي السوري حمزة حمزة، الذي يسلّط الضوء على الخلفيات التاريخية للسياسات الداعمة، ويكشف عن التشوهات البنيوية التي راكمتها الحكومات المتعاقبة، ويقترح خارطة طريق عملية لإصلاح قطاع الكهرباء، تربط بين العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية، وتضع المواطن في قلب المعادلة الإصلاحية.
جذور الأزمة
قال حمزة: إن المشكلة لا تكمن في القرار بحد ذاته، بل في تراكم سياسات اقتصادية مشوّهة على مدى عقود، جعلت من الدعم أداة سياسية أكثر منها أداة تنموية، وأوضح أن النظام الاقتصادي السابق كان قائماً على ما وصفه بـ”الدعم العشوائي”، الذي قُدّم في الخطاب الرسمي على أنه إنجاز اجتماعي، بينما كان في جوهره أداة لإعادة إنتاج الفقر وعدم المساواة.
وأضاف: “لطالما كان الدعم غير المدروس يسرق الفقير ليعطي الغني، ويعطل دينامية السوق ويضعف الإنتاجية”.
وأشار حمزة إلى أن جذور المشكلة تعود إلى غياب الرؤية الاستراتيجية في إدارة موارد الطاقة، إذ تم التعامل مع الكهرباء كحق اجتماعي مجاني، من دون حسابات اقتصادية دقيقة، ما أدى إلى تضخم فاتورة الدعم وتراجع قدرة الدولة على تمويل قطاع الكهرباء، خصوصاً مع تراجع الإيرادات العامة، وتدهور البنية التحتية بفعل الحرب والعقوبات.
خرافة الدعم
حمزة أشار إلى ضرورة تفكيك ما يسميه “خرافة الدعم العادل”، وشرح أن الدولة كانت تروج أنها تمنح المواطن من خزينتها، لكن الحقيقة أن أكثر من 70بالمئة من إيرادات الموازنة كانت تأتي من الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطنون أنفسهم.
وأضاف كانت العملية أشبه بدائرة مفرغة تأخذ المال من جيوب الناس لتعيد توزيعه بشكل خاطئ، فيستفيد منها من يستهلك أكثر، لا من يحتاج أكثر.
هذه المقاربة، وبحسب حمزة، أدت إلى ترسيخ ثقافة الاتكال على الدولة، وتآكل مفهوم الإنتاج، كما جعلت المواطن يشعر أن الطاقة حق مجاني، وليست مورداً يجب الحفاظ عليه وترشيده، والنتيجة كانت ارتفاعاً مفرطاً في الهدر، سواء في الاستهلاك المنزلي أو في المنشآت العامة التي لم تكن تحاسب على استخدام الكهرباء.
الضريبة المجحفة
كما أكد أن النظام الضريبي السائد كان مجحفاً بطبيعته، إذ اعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة، مثل ضريبة القيمة المضافة، وهي ضريبة يدفعها الغني والفقير بنفس النسبة، ما يجعل عبئها على محدودي الدخل أكبر بكثير، وأضاف في المقابل، كان التهرب الضريبي سمة أساسية لدى كبار التجار وأصحاب النفوذ، ما جعل العبء الضريبي غير متوازن إطلاقاً.
هذا الخلل جعل من أي إصلاح للأسعار خطوة ناقصة ما لم تترافق مع إصلاح ضريبي يعيد التوازن ويحقق العدالة، فالمواطن لا يرفض الإصلاح بحد ذاته، لكنه يرفض أن يتحمل عبء الإصلاح وحده، بينما يستمر الأغنياء في التهرب من مسؤولياتهم المالية تجاه الدولة والمجتمع.
المستفيد الحقيقي
وبين الخبير الاقتصادي أن المستفيد الأكبر من دعم الطاقة لم يكن المواطن محدود الدخل، بل أصحاب المصانع والمزارع والقصور الذين يستهلكون آلاف الليترات من الوقود والكهرباء بأسعار مدعومة.
وقال أن المواطن الذي يستهلك 50 لتراً سنوياً لم يكن المستفيد، بل من يملك القدرة على الاستهلاك، وإن هذا النوع من الدعم لا يحقق عدالة، بل يوسع الفجوة بين الطبقات، لأن من يملك وسائل الإنتاج والطاقة المدعومة يحقق أرباحاً أعلى، بينما يبقى المستهلك النهائي رهينة الأسعار والرواتب المحدودة.
تشوه السوق
في هذا السياق، أشار إلى أن الدعم أسهم في تشويه السوق، ضارباً مثالاً بما سمي “الصناعة الوطنية” التي كانت في حقيقتها مجرد ورش تجميع تستورد كل شيء من الخارج، وأضاف: كان أصحاب هذه الورش يبيعون منتجاتهم بأسعار أعلى من المستورد، مستفيدين من دعم الطاقة دون تقديم أي قيمة مضافة حقيقية.
هذا التشوه جعل من الاقتصاد السوري اقتصاداً ريعياً غير منتج، يعتمد على الدعم بدلاً من الابتكار والكفاءة، ومع غياب المنافسة الحقيقية، تراجع الأداء الصناعي والزراعي، وازدادت البطالة، بينما بقيت فواتير الدعم تتضخم عاماً بعد عام.
الدعم كأداة سياسية
وتحدث كيف أن الدعم في الأنظمة الشمولية لا يُستخدم كأداة عدالة، بل كوسيلة للضبط السياسي، و أن الدولة تخلق علاقة أبوية مع المواطن، تجعله يشعر بأنه مدين لها بالعيش، مما يقوّض مفهوم المواطنة ويكرّس التبعية. وأضاف المواطن لا يُعامل كصاحب حق، بل كمتلقٍّ للعطايا، وهذا يضعف شعوره بالمسؤولية ويكرس التبعية.” ويرى حمزة أن التحرر من هذه المنظومة لا يكون فقط بقرارات مالية، بل بثقافة جديدة تقوم على الشفافية والمساءلة، تجعل المواطن شريكاً لا تابعاً.
ضرورة الإصلاح
شدد على أن الوضع الحالي لم يعد يحتمل التأجيل، لأن قطاع الكهرباء على حافة الانهيار، والدولة استنفدت مواردها، والبديل عن الإصلاح هو العتمة الكاملة. لذلك الإصلاح ، بات ضرورة وجودية، لكن يجب أن يكون عقلانياً، عادلاً، ومدروساً، لا مجرد قرار تقني برفع الأسعار.
التدرج والرواتب
وأكد حمزة أن رفع الأسعار يجب أن يتم وفق مبدأ التدرج، وبما يتناسب مع تطور الرواتب والدخول، ويجب ألا يتم تحميل المواطن عبء الإصلاح دفعة واحدة، خصوصاً في ظل تدني الأجور. والمطلوب هو خارطة طريق زمنية واضحة، تربط كل زيادة في الأسعار بتحسن ملموس في الرواتب أو في مستوى الخدمة. ويرى أن الإصلاح الناجح هو الذي يجعل المواطن يشعر أن ما يدفعه يعود عليه بمنفعة حقيقية، سواء بتحسين ساعات التغذية أو بتطوير البنية التحتية وأوضح أن تحسين الخدمة هو أول شروط الإصلاح، مضيفاً أنه لا يمكن مطالبة المواطن بدفع المزيد مقابل خدمة متدهورة، ويجب أن يشعر بتحسن ملموس في ساعات التغذية واستقرار التيار، وإلا فإن أي خطاب إصلاحي سيفقد مصداقيته. كما دعا إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة، باعتبارها أحد المداخل الرئيسية لتقليل العجز وتخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري، خاصة وأن سوريا تمتلك إمكانات واعدة في مجالي الطاقة الشمسية والرياح.
إصلاح ضريبي وشفافية كاملة
وتحدث عن اهمية إصلاح النظام الضريبي لأنه ضرورة لا تحتمل التأجيل، وأوضح أن العدالة تقتضي تحميل أصحاب الدخول المرتفعة العبء الأكبر، وتخفيف الضغط عن الطبقات الوسطى والفقيرة لأنه لا يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي دون إصلاح ضريبي شامل، يربط بين ما يدفع وما يسترد من خدمات. وشدد على أن الشفافية هي حجر الأساس لبناء الثقة، داعياً إلى نشر تكاليف الإنتاج والتشغيل بشكل دوري، وتوضيح كيف ستُستخدم الإيرادات الإضافية في تطوير الشبكة ومحطات التوليد، فحين يعلم المواطن أن ما يدفعه يذهب لتحسين خدمته، سيتحول من معارض إلى شريك في الإصلاح حتما.
رؤية مستقبلية ونماذج ناجحة
وأشار حمزة إلى أن الاقتصاد لا يدار بالشعارات، رفع الدعم المفاجئ إلى صدمة ورفض واسع. وبالمقابل قال أنه لجذب الاستثمارات، يجب أن يكون تسعير الكهرباء واقعياً ويعكس التكلفة الحقيقية، لأن المستثمر يبحث عن بيئة مستقرة وشفافة. وضرب مثالاً بالنموذج التركي، الذي انتقل تدريجياً من دعم السلعة إلى دعم الفرد، وحرر السوق، وشجع الاستثمار، مع الحفاظ على شبكة أمان اجتماعي عبر دعم نقدي مباشر للأسر المحتاجة.
الدعم النقدي وخارطة الطريق
أوضح حمزة أن الدعم الحقيقي ليس في كهرباء رخيصة لكنها غير متوفرة، بل في تحويل مالي مباشر للأسر الأكثر فقراً، يمكنها من شراء الخدمة بالسعر الحقيقي، ويمنع تسرب الدعم إلى غير مستحقيه. واقترح خطة متكاملة تبدأ بإنشاء سجل وطني موحد لتحديد الأسر المستحقة، وتطبيق تجريبي في منطقة محددة، مع ضمان الشفافية في كل مراحل التنفيذ. ويجب اعتماد معايير متعددة الأبعاد لتحديد المستحقين، وتقييم النتائج قبل التعميم، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من العدالة في التوزيع. تحديات وفرصة تاريخية وأكد على أن التحديات جسيمة، من ضعف البنية التحتية إلى انتشار الفساد سابقا، لكنه أكد أن البديل هو استمرار في الاصلاح، وبين أن الأزمة الحالية تمثل فرصة تاريخية للانتقال من نموذج ريعي قائم على الهدر، إلى نموذج إنتاجي قائم على الكفاءة والعدالة.
قرارات شجاعة
وفي نهاية حديثه قال حمزة إن المستقبل لا يصنع بالحظ، بل يبنى بالقرارات الشجاعة، وأن الأزمة الحالية، رغم قسوتها، تمثل فرصة حقيقية لإعادة بناء منظومة الطاقة على أسس الكفاءة والعدالة. وأوضح أن إصلاح الكهرباء لا يعني فقط رفع الأسعار، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن على قاعدة الشفافية والمساءلة. و الإصلاح العادل يبدأ من تحسين الخدمة، وضبط الهدر، وتوجيه الدعم إلى مستحقيه، مع استثمار جاد في الطاقة المتجددة التي يمكن أن تحول العجز إلى اكتفاء مستقبلي. فحين تتوافر الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية الواضحة، ويشارك المواطن بوعي ومسؤولية، يمكن تحويل أزمة الكهرباء إلى رافعة للتنمية، لا عبئاً على المعيشة. فالإصلاح هنا ليس عبوراً نحو الغلاء، بل عبور نحو الاستقرار والمستقبل.