الملحق الثقافي:ناظم مهنا:
لغتنا العربية بيتُ كينونتنا، إنَّنا نسكن شعراء فـي هذا البهاء العظيم الذي لا يستطيع أحد أن يستخفَّ به أو يقلّل من شأنه. ليس لأنَّ لغتَنا هي لغة عالميّة معترفٌ بها، بل لأنَّها لغة عظيمة على مرِّ الدهر، لغةٌ جاذبة للعقول، ولغة مبنيّة على قواعد ونظام منطقي يجعلها قادرة على التكيّف والتجديد المستمرين، وعلى التعبير الأدبي والعلمي على أكمل وجه، إنّها لغتنا الأم التي نعتزّ بها، وهي المنظومة الأعمق التي تُعبّر عن حضورنا فـي فكر العالم القديم والمعاصر. ولم أجد فـي هذا الوقت أفضل من كلام قرأته منذ أيام فـي كتاب بعنوان: “غيرة اللغات”، للكاتب الأرجنتيني الأصل، الإيطالي الجنسية “أدريان ن برافـي”، ترجمه إلى العربية الشاعر السوري المبدع الشاب “أمارجي”، وسيكون لي وقفة مع هذا الشاعر المسكون بالشعر، الشاعر السوري العربي الكنعاني من مدينة اللاذقية، الأخت الحية لأوغاريت، هذا الشاعر الذي أحييه على شعره أولاً، وعلى ترجماته الباذخة ثانياً، وأرى أن الأفق أمامه مفتوح ليَعبُرَ إلى العالمية.
يقول أدريان برافـي فـي غيرة اللغات تحت عنوان “أمومة اللغة”:
“أسأل نفسي: أتراه من الممكن أن يتخلّى المرء عن لغته، إذا ما وضعنا فـي الحسبان، أن اللغة ليست مجرد وسيلةٍ للكلام فحسب، أو أنها بالأحرى لا تتعلق بمنظومة نحوية فحسب، وإنما بطريقة تصورنا للأمور أيضاً؟ قد يحدث نتيجة تقلبات حياتية مختلفة، أن ندير لها ظهرانينا، أو أن نبتعد عنها، وأن نستبدل بها لغة أخرى. ولكن أغلب الظن أنه ليس بمقدورنا الانفصال عن أمومة اللغة التي يتّفق الجميع على أنَّها الأصل الذي لا يمكن إلغاؤه، حتى عندما يُقيّض لنا أن نرى العالم فـي ضوء لغة جديدة. أمومة اللغة لا تعلّمنا الكلام فحسب، ولكنها تعطينا نظرة، وشعوراً، وتصوراً نحو الأشياء. قواعدُ تركيبها تشكل منظوراً وزاويةَ رؤية. يمكننا أن نغلف قصصنا بلغات أخرى، ولكن أمومة لغتنا الأصلية ستبقى حاضرة وستحتجُّ علينا، ذلك أنها طريقة وجود، وحياة، وتفكير، بصرف النظر عن طريقة التعبير بها. إنها فنُّ تأويلنا للعالم؛ ونحن فـي النهاية إنَّما نتكلّم لغتنا الأم بلغات أخرى كثيرة”.
التنوخي والحكاية العربية
استوقفني رأي المستشرق الروسي فلشتينسكي عن كتاب: “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة”، أنموذجاً للحكاية فـي القرون الوسطى.
الكتاب لـ “أبي محسن التنوخي”، وله كتاب “الفرج قبل الشدة”. التنوخي فـي نظر فلشتينسكي، من الشخصيات المرموقة فـي تاريخ النثر العربي فـي المرحلة الكلاسيكية. كتاب نشوار المحاضرة، فيه “نوع خاص من الحكايات العربية المتميزة للغاية من حيث طابعها سواء عن النثر المزوّق للنخبة من أهل المعرفة، أم الأدب الشعبي القائم على الأساس الفلكلوري التقليدي. يشير التنوخي فـي مقدمة كتابه نشوار المحاضرة إلى أنه دَوّن فيه ما سمعه من الأصدقاء والأقرباء والمعارف من الحكايات والقصص ليستفيدَ منها العاقلُ اللّبيب والفطن الأريب…”.
ويقول المستشرق الروسي: “حين نطالع هذه القصص والحكايات والأخبار نشعر وكأننا حاضرون فـي المجلس الذي تدور فيه الأحاديث، يتجاذبها على مهلٍ وبلا عجل أهل المعرفة من البغداديين فـي القرن العاشر، المجتمعين طلباً لجمام الروح وراحة النفس عقبَ هموم النهار ومتاعب العمل وإمتاع بعضهم بعضاً بالأحاديث عمّا جرى وما وقع”.
ويرى فلشتينسكي أنَّ جذور الفن الخطابي والحكاية الشفهية الممتعة عند العرب تمتدُّ إلى أغوار الماضي السحيق. لكن ما يهمنا هنا لفتُ الانتباه إلى ملامح القصِّ الفني القصير والخبر القصصي وربطه بالمعاصرة فـي كتاب التنوخي “نشوار المحاضرة”، واستناداً إلى هذه الإشارات اللَّماحة من هذا المستشرق الروسي الذي يبدو عميق المعرفة بالحكاية القديمة والمعاصرة ويجيد الربط بينهما، يتحدث فلشتينسكي عن الاختلاق غير الواعي أو غير المقصود فـي كتاب التنوخي فـي حين كان خيال الكُتّاب العرب فـي القرون الوسطى مقيّداً بأعرافِ “مطابقة الحقيقة”، ويرى أن هذه المطابقة للحقيقة مختلفة تماماً عن “الحقيقة المطابقة” فـي العصر الحالي، وتلك الحقيقة المطابقة كانت تسمح بإيراد المعجزة والخوارق إلا أنَّها لا تبيحُ الانحراف عن قواعد ذكر أخبار الوقائع والحوادث، ولا تغتفرُ سرد أسماء الأشخاص غير الواقعيين والإحالة على مدة زمنية لا أصل لها، ووصف رقعة طبوغرافية لا وجود لها فـي الطبيعة.
ويرى فلشتينسكي أنَّ “نشوار المحاضرة” يشكل حلقةَ وصلٍ بين تقاليد الحكايات الشعبية الموضوعة، والروايات الوثائقية. وتصل قصص التنوخي بالأدب مراعاته العبرة والوعظ والإرشاد، وبالقصة الشعبية رغبةُ الميل إلى التّسلية والترفيه والترويح عن النفس. ويقول: “خلافاً عن قصّاصي الشوارع وجامعي وناقلي النتاجات الفولكلورية على اختلاف أنواعها: الملاحم الشعبية أو ملاحم الفرسان، والحكايات، والأقاصيص وما شاكل… إن التنوخي على غرار سلفه الجاحظ وأساتذة الأدب يتخلّى عن الأوهام والاختلاقات ويحاول دائماً أن يؤكد أن الأحاديث التي ينقلها ويرويها، لها أصلٌ فـي الحياة الواقعية، وقد استمدَّ الأخبار عنها من مصادر وثيقة وصادقة، وهو لذلك يُورد الإسناد المفصّل لكل خبر، وإذا كان مصدر النَّبأ مفقوداً لسببٍ ما، فإن التنوخي كان يرى من واجبه الإفادة من هذا على نحو خاص، قائلاً: “حدّثني شيخٌ من شيوخنا وقد غاب عني اسمه”.
إن حكايات التنوخي على غرار حكايات “ألف ليلة وليلة” تحمل روح هذه الحكايات المسلّية، يصدّق ما حدّثوه به وقصّوه عليه، أو على الأقل يتظاهر بأنه مصدّقٌ به من أجل الحكاية أولاً وأهدافها ثانياً. ويرى المستشرق الروسي أن تركيب أقاصيص التنوخي كلَّه عبارةٌ عن تيارٍ غير منتظم من الحكايات غير الموصولة بنظام، لا من حيث الموضوع، ولا من حيث خاتمتها الأخلاقية أو عبرتها وعظتها، وهي فـي هذا تشبه المجموعات القصصية التي تُطبَع فـي أيامنا. وإن التنوّع فـي الأقاصيص عند التنوخي يبدو شبيهاً بتداعي الأفكار. ومثل هذا النظام فـي التأليف القصصي نابعٌ من اعتماد التنوخي على الطّابع المسلي الترفيهي الإمتاعي. ولكن القسم الأكبر من الأقاصيص فـي “نشوار المحاضرة” يقوم على أساس الحقائق والأحداث الفعلية الحقيقية التي عرفها المؤلف من معاصريه ومن شهود العيان، ولكنه يضفي طابعاً درامياً على الحدث أو الحكاية.
مذكرات قرن ومدوّنة وطن وشعب
حُقَّ للدكتور عبد اللطيف يونس أن يقول كما قال الشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا: “أشهد أنَّني قد عشت”.
وصلني كتابُ مذكرات الدكتور الأديب والشاعر، الصحفي والسياسي عبد اللطيف يونس، وتلقَّفتُه بشغف بعد إخفاقٍ فـي الحصول عليه أو استعارته. إن سيرة حياة هذا الرجل الحافلة بالأحداث وشهادته على العصر الممتد والعاصف، وأسلوبه وطريقة عرضه، كلّها، جديرة بأن تثيرَ فضولنا المعرفي، وتجعلنا نهرع بحماس للدخول فـي هذا السِّفر الضخم من المعارف والأحداث وتجربة الحياة والهجرة والعمل فـي الوطن. إنه كتابُ سيرة وكفاح وتاريخ لرجل يُطلُّ على القرن العشرين من علياء الزمن، رجل ولد مع القرن ودرج معه، كما يدرج الصبا مع النهر، ويغدوان كلاهما نهرين متوازيين، أحدهما يصبُّ فـي بحر المعرفة و التجربة والنُّضج، والآخر يصبُّ فـي الأفق وفـي بحر التاريخ.
تبدأ رحلة الذاكرة فـي مذكرات الدكتور عبد اللطيف يونس من الطفولة والنمو واكتشاف نزوعه نحو الإصلاح والنهضة والعدالة الاجتماعية وموهبته الشعرية والأدبية، وبدايات النشر فـي الصحافة، ثم صفحات من الذاكرة السياسية فـي عهد الانتداب وبعد الانتداب، وعصر الحكومات الوطنية والانقلابات التي شهدتها سورية، فكان شاهداً على أدقّ التفاصيل فيها. انخرط فـي الحياة السياسية بمواقفه الجريئة المِقدامة، ووضع نصب عينيه مصلحة الوطن وأبناء الشعب، أحداث مهمّة سردتها المذكرات الفريدة عن محافظة اللاذقية وقُراها وسكان تلك الأرض الذين عاشوا قروناً فـي عتمة التهميش والظلم والتّجني، والكِتابُ حافلٌ بالطرائف ونوادر الأخبار والحكايات والأسفار، ودهاليز السياسة وفرسانها، والمؤامرات، ثم ذكريات عن المهجر والاغتراب فـي أمريكا الجنوبية. إنَّها حياةٌ حافلة بالمجد لشخصيةٍ سورية عربية عالمية كبيرة؛ الراحل الكبير عبد اللطيف يونس.
التاريخ: الثلاثاء18-8-2020
رقم العدد :1009