الثورة أون لاين – علي الأحمد:
ليتأمّل المرء بعضاً من عناوين الغناء العربي المعاصر ، وكيف باتت هذه الاغنية مرتعاً خصباً لتسفيه البُعد الرسالي الإنساني العظيم الذي لازم هذا الفن عبر التاريخ، وعلى كلّ المستويات الدينية والوطنية والعاطفية، ليدرك بالتالي، كيف أصبح الغناء اليوم ،مدعاة للاستسهال في العملية الفنية الإبداعية ،حيث تسلل اليه خلسة مهرجون وأدعياء ممن أدركتهم هذه المهنة بمحض الصدف “المالية” وأشياء أخرى، ليصبحوا بين ليلة وضحاها ،نجوماً عابرون، بمرتبة الملوك والسلاطين والكواكب ،حيث تلعب صناعة النجوم المفبركة، وصناعة الإقبال عليها ،دوراً مهمّاً في تحديد سمة واتجاه هذا الفن نحو الهاوية السحيقة ،نحو كل ما يشوّه وجه الحياة وبُعدها الثقافي العظيم .
أهو الاستسهال في عملية الإنتاج والنشر والاعلام ،أم ندرة الشعراء والملحنين الموهوبين، والأصوات الذكية المثقفة ،معرفياً ،أم إنّ هذه الأمور لم تعد ذات شأن في العملية الإنتاجية المبرمجة على نظام العولمة ،وما أدراك ما هو نظام هذه المنظومة المتأمركة التي تريد فرض نسقها الثقافي الواحد وتعميمه على الجميع ،حيث الجميع يلبس لباساً واحداً ،ويأكل طعاماً واحداً ،ويشاهد فنّاً غنائيّاً واحداً ،لتغيب خصوبة وإشراقات التقاليد الغنائية العظيمة لدى الشعوب ،في قلب هذه المتاهة التي تبتلع كل من يقترب منها ولو من باب الفضول البريء .
إنه موسم الهجرة نحو الإسفاف والانحطاط والرداءة وتسطيح العقل والذائقة بنتاجات كئيبة لا تنتمي بأيّ حال إلى جماليات الغناء العربي التي كانت سائدة في القرن الماضي ،حين كان هذا “المغني” حياة الروح وبهجتها ،على رأي المبدع “بيرم التونسي” وحين كان هذا الفنّ النبيل، لا يقترب منه إلا من امتلك المعرفة والموهبة والإخلاص النادر للفنّ في اتجاه التسامي وتكريس حالة جمالية وذوقية ،تعبّر بكل صدق عن تحولات المجتمع العربي ،وتعبّر أيضاً عن التوق الحداثي المنشود ،انطلاقاً مما هو مكرس وناجز ومكتمل ،فكراً وممارسة ،ولا نريد أن نذكر أمثلة من واقع الغناء العربي اليوم ،فالمحطات الفضائية تقوم بالواجب على أكمل وجه ،هذا يفسر كيف أقيمت هذه “الدكاكين” الغنائية بزمن قياسي مع ظهور مرعب، لشركات إنتاج احتكارية تتوخى أولاً وقبل كلّ شيء الربح المادي الوفير ولو على حساب القيم الإنسانية وقيم هذا الفن ،هذه الشركات أضحت “مصنعاً” لإنتاج وتصنيع وتفريخ مغنين ومغنيات يمتلكون كل شيء، إلا الموهبة والحضور الإبداعي الخلاق ، بالطبع هناك بالمقابل، فنانون أوفياء لروح ومزاج الغناء العربي الأصيل، لكنهم مبعدون عن هذه الشركات الإنتاجية والمنصات الإعلامية، لأنهم وببساطة لم يقبلوا أبداً، أن يساهموا في هذا الخراب والسقوط العظيم للأغنية العربية المعاصرة التي فقدت مكانتها وروحها التواقة للجمال والحياة.
إنّه عصر السرعة والسلعة وإجبار الإنسان المعاصر على أن يكون متحضراً أو قابلاً للتحضّر كما تريد منظومة القيم المعولمة ،يعيش في عصر حضارة البلاستيك والضغط على الأزرار ، ليحاصره هذا الطوفان الثاني من نتاجات الفن المعاصر، طوفان لا انحسار له ، ممتد إلى ما لانهاية، حيث تطفو فقاعات وزبد الغناء المعاصر الذي يذهب جفاء ، يموت لحظة ولادته ،لأنه فنّ لقيط وكسيح، نما خارج تربة وطين هذه الأرض ،يتبنى التقليد الممنهج واستنساخ لغة الآخر الاستهلاكية، ليسير باطمئنان نحو هاويته المحتومة ؟!.
يقول الباحث الدكتور “سليمان العسكري” :إنّ معضلة إعلامنا تتمثل في تحوله إلى أن يكون إعلاناً أكثر منه إعلاماً، فهو إعلان للسلع الأكثر رواجاً، حتى ولو لم تكن الأفضل جودة، وإعلان للنجوم الأكثر انتشاراً، حتى لو لم يكونوا الأفضل قيمة.