أحوال غير مسبوقة بات الناس يعيشونها في ظل أوضاع صحية غير مسبوقة أيضاً اجتاحت العالم من أدناه الى أقصاه.. والأمراض تصيب البشر لسبب، أو لآخر بشكل طبيعي، واعتيادي، وهذا بدوره يستدعي تعاطفاً من نوع خاص ممن يحيطون بالشخص المريض مترافقاً بالرعاية، والعناية حتى يتم الشفاء، شأن ذلك شأن أعضاء الجسم البشري التي تتجاوب مع بعضها بعضاً لحماية العضو المصاب.. كل هذا مما هو معروف، ومألوف.. لكن ما هو من غير المألوف أن يُنبذ المريض وحيداً في مكان منعزل من منزله، وهو منفصل عن باقي أفراد أسرته، ودون تواصل مباشر حتى مع طبيبه، يداوي نفسه بنفسه، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منه، وذلك ببساطة لأنه أصيب بالوباء فأصبح موبوءاً، ولمسه يكاد يكون محظوراً.. بينما هو يشتاق الى لمسة حانية تخفف من معاناته التي تفرعت الى أشكال مختلفة من المعاناة ليس أولها آلام الجسد، ولا آخرها الإشفاق على الذات في ظل وحدته مع ما ألمَّ به.
مشاعر غريبة، وغير مألوفة، ومن نوع جديد تماماً أصبح المرضى الذين وصلت إليهم إصابة الوباء يختبرونها في الآونة الأخيرة سواء أكانوا في بيوتهم أم في المشافي، ولعل هذا الجديد، والغريب من المشاعر سيشكل في المستقبل نوعاً ما من ردود الأفعال التي قد تتجلى في حالة من الحذر الدائم عند المرء، كما ستجعله أكثر اعتماداً على النفس مما سيخفف بدوره العبء عن الآخرين في رعاية مرضاهم ليصبح الأمر سلوكاً معتاداً لمن خاض قسوة التجربة، واختبر مشاعرها.
إن المبادرات العاطفية التي تنشأ بمبررات المرض، أو حلول المصائب أصبحت محكومة بالأجواء العامة المحيطة بالمصابين، وبمن هم حولهم.. فإذا أصبحنا نعزز مسافة الابتعاد عمن مرضوا فإننا أصبحنا نعززها أكثر في حال الجنازات، ومراسم الدفن ليوارى الأعزاء الثرى في صمت كامل، ودون مجالس عزاء بينما الحاجة لمن هم من الأقرباء، والأصدقاء، وحتى من المعارف، أو الزملاء تكون أكثر إلحاحاً في مثل هذه الأحوال لما لذلك من تأثير إيجابي في التخفف من حدة الصدمة، وأثرها مادام البشر لا يعيشون إلا مع بعضهم بعضاً ليتنفسوا هواءً واحداً.
نحن دوماً بحاجة لعدة أنواع من التعاطف لرفع القدرة على تحمل ما يصيبنا من أزمات طارئة، وهي لا تنحصر بالطبع في الحالات المرضية فقط بل هناك من الأزمات ما يتعلق بفقد الوظائف، وتعطل المصالح، وغيرها، وانهيار أسوار الحماية التي يحصن بها الفرد نفسه حتى يبلغ مرحلة الشفاء الجسدي، أو النفسي ليعيد بناءها من جديد.. وأول هذه الأنواع هو التعاطف مع الذات عوضاً عن جلدها، ولومها، ومحاسبتها على ما اقترفته من أخطاء لما لذلك من تأثير مدمر للنفس.. بل هو العمل على مسامحتها في خطوة إيجابية نحو التعافي النفسي الذي يلقي بتأثيره على الآخر الجسدي.. ولعل هذا التعاطف مع الذات في ظروف المريض المعزول بشكل شبه تام عن محيطه بدءاً من أسرته القريبة، وانتهاءً بزملائه في العمل، ومعارفه مما يخفف من وطأة معاناته.. والتعاطف هنا لا يعني الإشفاق على النفس، ولا يجوز الخلط بينهما لأن ذلك يولد مشاعر الحسرة، والأسف.. وإنما هو العطف الذاتي، أو التقبل من قِبل المرء لنفسه بكل أحواله من الفشل الى النجاح في تصالح تام.
لكن بالمقابل ألم يعتد الناس على العزلة الطوعية قبل تلك الأخرى المستجدة والإجبارية بعد أن استغرقوا في أفلاك الرقمية وهم يدورون في دوائرها على انفراد، وفي ابتعاد ليس بظاهري عمن هم من حولهم، بل هو أكيد، وواقعي؟.. لعل هذا الأمر قد أصبح مقبولاً الآن بعد أن عزز من التواصل الافتراضي في بحث عن نبض من التعاطف، أو استدعاء لكلمات، وعبارات تحجب العبرات لتخفف من تأثير الوحدة، والبِعاد.
وليصبح شعار هذه الأحوال الطارئة من الانعزال: احترس، ولا تقترب.. لكن لا تقطع حِبال الود والتعاطف ولو بكلمة، أو بصورة لزهرة تصل عبر الأثير لتجعل من أسوار العزلة أسواراً هشة كما الوهم قابلة للهدم.
إضاءات – لينــــــا كيــــــــلاني