الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن :
إن تحليلات هيغل الديالكتيكية للتنوير والثورة الفرنسية، شكلت الأساس لنظرية ماركس في المادية التاريخية. لقد أشاد هيغل بالثورة الفرنسية كحدث “تاريخي للعالم”، لارتباطها بمصلحة الإنسان بصرف النظر عن الدين أو القومية. ماركس وإنجلس في زمانهما أيّدا تماماً هذه الرؤية.
كان هيغل الشاب قد احتضن أيضاً وبحماس مُثل الثورة الفرنسية. إن ميول كل من هيغل وهولدرن كانت نحو ربط الثورة بما فيها من تجدد روحي وأخلاقي بمستقبل الحرية والجمال، معتمدين جزئياً على انخراطهما المتزامن في بدايات عام 1790 في السبينوزية ونصوص المفكر الألماني الكبير سبينوزا.
لماذا هيغل؟
“فينومينولوجيا الروح” لهيغل (1807) تعرض واحدة من أعظم الرؤى النقدية للتنوير. الفيلسوف الألماني هيغل كتب عمله العظيم في وسط فترة حروب نابليون، وكان حبر مخطوطة الفينومينولوجي لم يجف بعد عندما فر هيغل معها أثناء معركة جينا (1806). وحتى عند الاحتلال الفرنسي لألمانيا، نظر هيغل لنابليون كـ”روح العالم” ممتطياً حصانه، وأيّد تصدير الثورة الفرنسية للدساتير الليبرالية في جميع أوروبا. كان هيغل يعني بالروح تطور الفعالية الإنسانية أو العملية التاريخية للانعتاق. كتب هيغل الفينومينولوجي كملحمة فلسفية للحرية الإنسانية. لسوء الحظ، مع أن جاناثان إزرا خصص مكاناً لمناقشة الرؤى السياسية لهيغل، لكنه فشل في معالجة انخراط الفينومينولوجي بمشروع التنوير بالإضافة إلى تأثيراته على الثورة الفرنسية وما تلاها.
اكتسبت فلسفة هيغل سمعة كونها صعبة الفهم، والمقاطع في الفينومينولوجي التي تتعامل مع التنوير كانت شاقة. نحن نحتاج إلى توضيح دقيق لتحليلات هيغل طالما هي مصدر نظري حاسم لفهم ماركس للتنوير. وكما بالنسبة إلى ماركس، انتقادات هيغل لم يكن القصد منها رفض أو تجاهل إرث التنوير. هيغل كرائد للتفكير الديالكتيكي يرى التنوير الأوروبي كظاهرة متناقضة ذات مظاهر إيجابية وسلبية معاً. وبينما هو يرفض التأثيرات المدمرة لليبرالية، هو يعترف بأن المساهمات الإيجابية للتنوير هي جاءت لتبقى. هذه تتضمن الحريات العالمية وحكم القانون وإلغاء الامتيازات الأرستقراطية وتطور القوى المنتجة. وبشكل أعم، كانت إنجازات الثورة الفرنسية مكسباً دائماً للبشرية، وهكذا، بالنسبة إلى هيغل، كان التنوير مرحلة ضرورية في تاريخ العالم، وبدونه سوف لن توجد حريات حديثة.
في ظلال الثورة الفرنسية
الشاب الهيغلي برونو باور، أشار إلى أن “فينومينولوجيا الروح” لهيغل لم تترك أبداً روح الثورة الفرنسية. الكتاب يُقرأ كبيان سياسي مليء بالحماس الثوري. عندما قرأ ماركس “الفينومينولوجي” عام 1844 هو أعاد صياغة تعبيرات هيغل الفلسفية بشكل أكثر مادية. ما سماه هيغل الصراع بين التنوير والإيمان، كان قناعاً أيديولوجياً ارتدته الثورات البرجوازية. بينما هيغل يعبّر عن هذه الصراعات بقناع مثالي، كمعركة بين مختلف أشكال الروح الإنسانية، لكن هذه المعارك الشبحية لها أساس واقعي في قوى الطبقة المادية. ولكن لكي نعطي هيغل حقه، نحن لا نستطيع أن نتجاهل أن التناقضات المادية جرى تحدّيها في عالم الوعي أو في عوالم الأبنية الفوقية الثقافية والسياسية.
تعليقات هيغل هي مثالية بالقدر الذي تأخذ به عناصر البناء الفوقي الأسبقية. ولذلك، فإن مهمتنا هي أن نضع هيغل على قدميه، أو للانتقال من مثالية هيغل إلى المادية التاريخية. هذا يعني الانتقال من الشعر المثالي الفينومينولوجي إلى الصراع الطبقي الواقعي المادي. بكلمة أخرى، في العمل من خلال هيغل، نحن نسير أقرب إلى ماركس. كرائد للمادية التاريخية، فلسفة هيغل تبيّن أن انتصار التنوير البرجوازي على الإقطاعية كان ضرورة تاريخية، لكنه ليس نصراً تاماً للحرية الإنسانية. كما بالنسبة إلى هونر دي بلزك وشارلس فورير، كان هيغل ناقداً مبكراً لمظاهر الانحطاط الإنساني للمجتمع البرجوازي، سماها “مملكة الحيوان الروحية”. ما يشير له هيغل في فصل “الحرية المطلقة والرعب” كان فشل اليعقوبيين، الذين هم من أكثر الأحزاب الراديكالية للثورة الفرنسية، في تجاوز تناقضات الرأسمالية الناشئة. هيغل ذاته لم يستطع إيجاد طريقة لهذه المعضلة ولام أي جهد ثوري للتغلب على اللامساواة البرجوازية باعتباره عملاً طوباوياً.
استمر ماركس وإنجلس في هذا التحليل للتنوير والرعب اليعقوبي متخذين هيغل أساساً لهما، مبيّنين أن الوعود الأصلية للحرية والمساواة كانت غير منسجمة مع المجتمع الطبقي. طالما أن شعارات الثورة الفرنسية ترافقت مع واقعية الرأسمالية، فإن تجريدات التنوير أصبحت لاعقلانية ملموسة. في تعبيراتهما المجردة، أصبحت “الحرية” حرية استغلال الطبقة العاملة، بينما “المساواة” أصبحت خدعة قانونية تخفي العلاقات غير المتكافئة بين العمال الجائعين ورؤسائهم الأغنياء. ومثلما علّق الروائي الفرنسي أناتولي فرانس مرة، إن القوانين، في “مساواتها العظيمة” منعت الأغنياء والفقراء أيضاً من النوم تحت الجسر أو التسول في الطرقات أو سرقة الخبز. إن ماركس وإنجلس ولأجل التغلب على المجتمع البرجوازي وضعا الفرد ضمن الطبقة العاملة. بينما البرجوازية في مواجهتها مع البروليتاريا المتمردة خانت إنجازاتها، وفضلت الديكتاتورية العسكرية على الديمقراطية، فقط العمال يستطيعون الاستمرار قدماً في ما كان تقدماً في ثقافة وفكر البرجوازية. لنعد تعبير إنجلس، البروليتاريا هي وريث للتنوير.
في إحدى قاعات مدرسة اللاهوت Tubingen Stift، كان هيغل الشاب وزملاؤه منهمكين في الثورة الفرنسية وإمكاناتها في الإطاحة بالسياسات والدين المحافظ. هؤلاء الطلاب لم يكونوا بروتستانت أصليين، هم اتبعوا باهتمام آخِر طراز فكري للثقافة الفرنسية بما فيها كتابات روسو. قبل تصاعد الرعب، شارك هيغل في نادي أحد الطلاب (اليعاقبة) وغرس لوحاً ثورياً من النباتات مع زميليه هولدرلن وشيلنغ. هيغل فهم كيف أن الكراهية الطبقية واللامساواة قادا الجماهير الفرنسية نحو الثورة. مع ذلك، هو ذاته لم يكن يعقوبياً، عواطفه كانت أكثر ميلاً لغيروندن.
في رسائل هيغل إلى شيلنغ عام 1794، نرى نفوراً من المقصلة وحزب روبسبير. هيغل أدرك أن كل أحداث وأفكار الثورة الفرنسية استلزمت واحدة أخرى. طبقاً لمقدمته، فإن مهمة الفينومينولوجي هي بيان الارتباط بين الأفكار و”ضرورتها الخارجية”، أو الكيفية التي تبدو بها في التاريخ. المرحلة اليعقوبية، بقدر ما كرهها هو شخصياً، لكنها كانت محصلة لا غنى عنها للصراع لأجل التنوير في فرنسا، الرعب كان عنصراً ضرورياً للثورة. لماذا التنوير الفرنسي كان عنيفا جدا مقارنة بالتنوير الألماني كان طبقا لهيغل بسبب اختلاف الثقافة الدينية. عدم تسامح الأنظمة القديمة أثار استجابات دموية عنيدة، بينما بفضل الثقافة البروتستانتية، كان التنوير الألماني نسبياً مسالماً. ولكن كما أوضح هيغل، فإن هذا السلام الظاهر والهدوء لم يشر إلى تفوق الثقافة الألمانية وإنما إلى رجعيتها. فلسفة عمانوئيل كانط في العقل التطبيقي لم تستطع تحقيق ذاتها في ظروف ألمانيا، بينما مذهب روبسبير في الفضيلة حطم كامل الثقافة للإقطاعية الفرنسية. أحد أشهر طلاب هيغل، هنريش هين، أعلن بأن كانط كفيلسوف تبنّى فقط قتل الإله، بينما دانتون وروبسبير كثوريين تبنّيا قتل الملك.
ديالكتيك هيغل في التنوير
في “فينومولوجيا الروح”، يبدأ هيغل تحليله للتنوير كصراع بين “الفهم الخالص” pure insight مقابل “الإيمان”. الفهم الخالص يمثل قوى النقد المجرد، هذه هي قوى عقل ذي جانب واحد حرر نفسه من الميتافيزيقا. إنها شكل من العقل الإيجابي الذي يتأرجح بين قطبين مختلفين: إما أن يأخذ موقع التجريبية، مفضلاً الحقائق الملموسة على القوانين العالمية، أو أن يأخذ موقع الشكلانية، مفضلاً قوانين غير مرنة على الحقائق الملموسة. بكلمة أخرى، إما أن الحقائق لا تساير تماماً المفاهيم المجردة، أو أن المفاهيم لا تستوعب الحقائق بما يكفي.
مع ذلك، يدّعي هيغل أن التجريبية البسيطة لها مزاياها. في فلسفة التاريخ، هو يكتب أنها من “الأهمية الكبيرة جداً بأن الأشياء المعقدة متعددة الأشكال يجب أن تُختزل إلى أبسط الظروف، وتُجلب إلى شكل من العالمية. الفهم الخالص هو ما يسميه هيغل الفهم، الذي يضم أصنافاً تستوعب أشياءً محدودة وعلاقات ثابتة. مقابل ما يسميه هيغل العقل الديالكتيكي، حيث الحقيقة هي الكل، فإن الفهم لا يمكنه أبداً الاستيعاب الكامل للواقع في جميع وجوده المادي وتطوره. لنكن واضحين، عندما ينتقد هيغل الفهم، فهو ليس بسبب أن الفهم “عقلاني”، وإنما لأنه ذو جانب واحد، وليس عقلانياً بما يكفي. الفهم، إما تجريبي أو شكلاني منطقي، لا يستطيع استيعاب تعقيدية الكل whole، أو ما يسميه الماركسيون الهيغليون مثل جورج لاكاس بالكلية tatality. الفهم الخالص أيضاً يتضمن فهماً مزدوجاً للعلاقات الاجتماعية، التي بها يُرى الناس إما كمستهلكين خاصين منعزلين، أو كمواطنين متساوين أمام القانون دون إشارة إلى الطبقة. وعليه، وبقدر ما لا يستطيع هذا الشكل من التنوير أن يتغلب على تناقضاته الفلسفية الخاصة به، فإن هذه القيود الأبستيمولوجية لها نتائج سياسية. وكما أشار هيغل، فإن هذا التنوير لا يزال يحتاج إلى مزيد من التنوير.
هيغل يقارن انتشار التنوير بالفايروس الذي يصيب بدون قصد دعاة الإيمان عندما يحاولون معارضة الفهم الخالص بالحجج. كلما جوبه الفهم الخالص بالدين كلما زاد انتشاراً، حتى يصبح الوقت متأخراً والفايروس يصيب كامل الثقافة:
“بدلاً من أن يكون التنوير الآن غير مرئي وروح غير مُدركة، إنه يتوغل في الأجزاء النبيلة شيئاً فشيئاً وحالاً يستحوذ بالكامل على جميع الأجزاء الحيوية والمعبودات غير الواعية، عندئذ وفي صباح جميل سيعطي دفعة لرفاقه ويسقطهم أرضاً”.
في توصيف التنوير كركل للخرافات أرضاً، هيغل يقتبس من دينس ديدرو. ديدرو في حواره الساخر يعرض تفكك الوعي في الثقافة الفرنسية التي يتحول بها النبيل إلى ما هو مضاد، أي مبتذل وقذر. إن قوة نقد التنوير تكشف أن صرح الإقطاعية فاسد ومترنح ويستحق الفناء. العاطفة الإقطاعية والأرستقراطية أصبحت قديمة الطراز في ضوء العلاقات الجديدة للمجتمع المدني البرجوازي. وبشكل أوضح، النقود هي من يحكم، والفضيلة ليست المكافئة لها. نحن لا نعرف إن كانت هناك مكافأة في السماء، لكن بالتأكيد ليست هنا على الأرض.
بعد تحطم جميع الأصنام المقدسة، لم ينقذ نقد التنوير إلا النقاد أنفسهم. النقاد يواجهون غرور ما يسميه هيغل “روح المملكة الحيوانية” للمصلحة الذاتية للبرجوازية. كل من هيغل وماركس أشادا بديدرو كمثال لامع للنقد الاجتماعي وكديالكتيكي. الديالكتيك الاجتماعي لديدرو يكشف كيف أن نعمة المجتمع المدني الفرنسي تتحول إلى المضاد المنافق لها، حيث أن وراء المظهر الزائف للنبل يختفي الكثير من الغرور والجشع المقموع. هيغل يرحب بتخلص التنوير من الماضي بما فيه العواطف الأرستقراطية وإنهاء تمجيد النبلاء. في ديالكتيكية التنوير هذه يبرز كسب إيجابي في تطور الروح. الكسب الإيجابي هو مفهوم التنوير للمنفعة. بعد هزيمة الفهم الخالص للإيمان، لا شيء يمنع الفهم الخالص من التعامل مع كل العالم كمفيد لذاته. كل شيء يصبح مفيداً لـ إيغو” الفرد، وحتى الإيمان وُجد له فوائده أيضاً. بالنسبة إلى هيغل، المنفعة ليست دائماً سيئة، في المنفعة يحقق “الفهم الخالص” إدراكه. وهكذا، المنفعة لها محتوى إيجابي. إنها ليست فقط نفي للإقطاع، إنها شكل من العقل يمكّن الإنسانية من إعادة تشكيل العالم طبقاً لحاجاته المادية.
حقيقة التنوير
في ترجمة هيغل مادياً، نحن نستطيع القول إن “حقيقة” التنوير هي تحقق المجتمع البرجوازي. طبقاً للوكاس، “هيغل يصف العلاقات بين الناس في الرأسمالية مبيناً أنها الشكل الأكثر تقدماً للتطور الإنساني والشكل الأكثر تكيفاً مع الروح”. في ظل الرأسمالية، على الأقل في هذه المرحلة من التاريخ، الناس يستطيعون المحافظة على أنفسهم اجتماعياً بينما ظاهرياً “يتابعون بانسجام مصالحهم الفردية الضيقة”. كذلك، يرى لوكاس أن ما يقصده هيغل بـ “فائدة الأشياء” (منفعتها) هو التعبير المثالي لما يسميه ماركس لاحقاً بـ “علاقات السلعة”.
السلعة لها خاصيتان هما قيمة استعمالية وقيمة استبدالية. القيمة الاستعمالية هي كيف أن الشيء يشبع حاجات الإنسان مادياً. أما القيمة الاستبدالية فهي الجزء الكمي الذي به تُستبدل السلعة. الاقتصادي الماركسي إرنست مانديل يقول إن السلع “ربما تُنتج للاستبدال في السوق لغرض بيعها، بدلاً من الاستهلاك المباشر لها من جانب المنتجين أو من جانب الطبقات الثرية”.
بينما هيغل يقول إن الفهم الخالص وجد عالماً مفيداً لذاته، لكنه لم يفهم “تناقضات” المنفعة، وبشكل خاص الطبيعة المتناقضة لشكل السلعة. ما يشير إليه هيغل في الاختزال الإنساني هو أن المنفعة تختزل الكائن الإنساني إلى مجرد أشياء مفيدة أيضاً، وهو ما أطلق عليه ماركس “الاغتراب”. طالما لا تستطيع الرأسمالية فصل القيمة الاستعمالية عن القيمة الاستبدالية، فهي لا تستطيع أن تشبع بالكامل حاجات الإنسان. بهذا فإن امتلاك المنفعة يعني امتلاك الاغتراب البرجوازي. وبتعبير أوضح، في ظل الرأسمالية، الربح هو الذي يحكم الناس.
حتى الآن، كانت الرأسمالية الأكثر تقدماً، مع ذلك هي شكل الحضارة الإنسانية الأكثر اغتراباً. التنوير في سعيه للتغلب على الاغتراب انتقل إلى ما يسميه هيغل بالحرية المطلقة. الذات المتنورة تواجه العالم ذاته في الخارج كشيء غير حقيقي، وأنها تريد إلغاء ذلك العالم لمصلحة الحرية الخالصة للذات. في هذا التحول، المحتوى الإيجابي للمنفعة أو لحاجة الإنسان يُضحى به لأجل الرغبة الخالصة التي لا تعرف اي شيء عدا واقعيتها. هذا تطور مقلق لهيغل، بالقدر الذي تحرر فيه الحرية المطلقة ذاتها من أي شيء مادي ملموس كعائق أمام رغبتها. إنها طوعية مطلقة تتصرف دون معرفة. مع ذلك، عندما تستأصل الحرية المطلقة “في غضبها المدمر” كل آثار الثقافة الإقطاعية، فإنها تكون لحظة دموية، لكنها ضرورية لتطور الروح. بهذه الكيفية فهم هيغل الرعب حيث اليعقوبية ليست انحرافاً عن التنوير الفرنسي، وإنما نتيجة لا يمكن تجنبها في الصراع ضد الإقطاعية.
الحرية المطلقة تكشف عن ذاتها كرغبة موحدة لا تقبل التسوية. تاريخياً، الحرية المطلقة كانت مساوية للرغبة الحرة لروسو. هذه الرغبة الحرة مريبة لكل شخص يعارضها. ولهذا فإن الحرية المطلقة تصبح إرهاباً. هنا، هيغل يعزل مظاهر الرغبة الحرة لروسو وأتباعه اليعاقبة الذين يؤيدون الفضيلة السياسية، بصرف النظر عن الظروف الخاصة. مشروع اليعاقبة كان في النهاية طوباوياً كونه لم يستطع التغلب على المظاهر الاغترابية للمجتمع البرجوازي بالرغبة السياسية وحدها. إن محاولة الرجوع إلى جمهورية إسبارطية وأخلاقية أصلية إنما تتعارض مع حاجات المنفعة.
هيغل واليعاقبة
يعترف هيغل بفضل روبسبير وسانت جست في وضع الأسس لدولة سياسية جديدة ذات “سيطرة مخيفة وخالصة”. هو يقارن روبسبير بغيره كبطل تاريخي ويحدد ضرورته الاستبدادية كشبيه لله. ولكن بينما اتبع اليعاقبة برنامجاً سلبياً في تحطيم الثقافة القديمة، فهم لم يتمكنوا من خلق جمهورية الفضيلة. الرعب أو الرغبة السياسية التي تزعم نفسها في تحدّي الضرورة المادية لا يستطيعان خلق أي شيء قابل للاستمرار، ولكن يستطيعان فقط زيادة تراكم الجثث. يقول فيكتور هيغو “المقصلة هي عذراء أمازون، تبيد فقط، هي لا تعطي ولادة”. هيغل يعترف بأن اليعاقبة خدموا هدفهم السلبي جيداً لكنهم لم يستطيعوا إقامة أي مؤسسات برجوازية مستقرة تتغلب على التناقضات الاجتماعية في زمانها. وكما يذكر روبسبير “الثورة المضادة في كل أجزاء الاقتصاد السياسي”. القرن التاسع عشر للرأسمالية وصل أخيراً مستعملاً روبسبير كوسيلته المتاحة. حالما تركت الضرورة روبسبير، كان الوقت مناسباً له ليخرج من المرحلة التاريخية، حتى اُعدم هو ذاته.
في هذه النقطة من الفينومينولوجي، تعترف الروح بأن الحرية المطلقة عاجزة وغير قادرة على إحداث التحول الفعال للعالم. الروح المتأثرة برعب روبسبير تنسحب إلى ذاتها، مستبدلة عالم السياسة بعالم الذهن. الروح أصيبت بالصدمة بهزيمتها عبر نهر الراين، وصخب الحرية الفرنسية تحول إلى أخلاق ألمانية متواضعة تحترم القانون. الثورة أصبحت تافهة، والبرجوازية الآن تقنع ذاتها نفاقاً بأنها خالصة الروح، متحررة من الدنيوية. ولكن كلما دعمت نقاءها المتجاوز كلما تركت مصالحها البرجوازية سليمة. السياسات الثورية تُركت، والرغبة الحرة لروسو ستتحول إلى صيغتها المنقحة في أخلاق كانط المطلقة. ما يقوله هيغل متأملاً، يوضحه ماركس مادياً.
طبقاً لهيغل، اختلف الفرنسيون عن الألمان في حاجتهم الفلسفية لإعادة تشكيل العالم السياسي، غير أن الخلل لديهم كان في محاولتهم تعريض عالمهم للعقل. مهما كان نقد هيغل من حيث سمته المطلقة في حقوق الإنسان، هو لم يرفضها أبداً كما فعل بورك ومازتر. هذه الحقوق كانت مطلقة لكنها لم تكن خيالاً، إنها أعطت تعبيراً لحاجات الإنسان الحقيقي. هيغل أشاد أيضاً بإيمان الفرنسيين الديني وتلك التيارات من التنوير الراديكالي التي تمتلك “شعوراً عميقاً ومتمرداً، بالضد من الفرضيات والافتراضات للدين الخالية من المعنى”. في الحقيقة، كان الفلاسفة الفرنسيون ينهضون ضد اللاأخلاق. هؤلاء الرجال الشجعان كافحوا بعبقرية رائعة وروح دافئة، وقاتلوا لأجل الحقوق الكبرى للبشرية”.
في مقابل جانثان إزرا، كان هيغل امتدح حتى روبسبير طالما “تجسدت معه مبادئ الفضيلة كأعلى مبادئ، وربما يقال إن الفضيلة مع هذا الرجل كانت شيئاً جاداً”. في رسالته الأخيرة حول مشروع إصلاح نظام التصويت الإنجليزي، اعترف هيغل بأن الدستور اليعقوبي لعام 1793 كان الأكثر ديمقراطية حتى وإن كان يستحيل تطبيقه. وعليه، فإن حكمه على الفلسفة الفرنسية والثورة الفرنسية لم يكن أخلاقياً وإنما ديالكتيكياً. هو لم يدن اليعاقبة كسلطويين فقط، وإنما يراهم كمرحلة ضرورية في التنوير. بدون اليعاقبة لكانت استسلمت مكاسب التنوير، وما كان تقدمياً في الثقافة البرجوازية للأيديولوجيا الملكية في فرنسا. هذا التقدير النقدي للتنوير ومرحلته اليعقوبية هو ما بدأ به ماركس وإنجلس.
المصدر: صوت اليسار Left Voice، هيغل، التنوير، الثورة، July 2020
التاريخ: الثلاثاء1-9-2020
رقم العدد :1011