لا أكادُ أذكرُ روائياً أو قاصاً إلا وأفاجَأُ أنّه خرجَ من رحمِ الصحافة، أو هو على علاقةٍ وثيقةٍ بها، ونعلمُ بالتأكيد أنّ بعض المبدعين في هذا المجال ممن لم يكونوا صحفيين وجدوا أنفسهم بعد أن نضجوا، أو نالوا الشهرةَ وما شابه، ينخرطونَ في العمل الصحفي غير المباشر ويكتبونَ الزوايا والمقالات الصحفيّة والتحقيقات وما شابه.
بل إن بعض الروائيين رغبوا في إصدارِ صحفٍ ومجلّاتٍ خاصة بهم؛ وهذا ما فعله دوستويفسكي(1821-1881) حين أصدرَ مجلّته المعروفة “يوميات كاتب”، وضمّت عشرات المقالات الصحفيّةِ في السياسةِ والدينِ والفكر والأدب. ولا تُنسى في هذا السياق تجربة الروائي والصحفي دانييل ديفو (1660 – 1731) صاحبُ “روبنسن كروزو” الذي أصدر ما لا يقل عن 300 كتاب وكتيّب ومجلّة، وبعض تلك المجلات في الاقتصاد والتجارة وغيرها، وقد عَبّر ماركيز عن ذلك بوضوح حين قال: “ولو خُيّرتُ بينَ أن يكونَ لي شركة إنتاج سينمائية أو دوريّة أدبيّة؛ فإنني أفضّل الدوريّة”، ولا أستغرب شخصيّاً كلام ماركيز، فهو من أبرز الأمثلة على الروائي الذي أتى الروايةَ والقصّة من عالم الصحافة، لقد عملَ صحفياً بينَ عامي 1950 و 1965، ولا سيّما في صحيفة إلـ سبيكتادور؛ مُراسلاً وناقداً سينمائياً، ثمّ مراسلاً لها من روما وباريس، والطريف أن ماركيز أبدعَ قصصه الأولى في مكتب الصحيفةِ ليلاً وبعد مغادرةِ الصحفيين الآخرين؛ وهو يذكِّرني في هذا البابِ بمجموعة من الأصدقاء الصحفيين القصاصيين والروائيين السوريين كخليل صويلح وحسن م. يوسف وناظم مهنا، ووليد معماري؛ وهؤلاء امتهنوا الصحافة وخرجوا منها إلى العالم الأدبي، وهو وجهُ شبهٍ آخر مع تجربةِ ماركيز الذي قال عام 1981: “كنت على قناعةٍ راسخة أن مهنتي الحقيقيّة هي الصحافة. ما لم أحبّه في الصحافة سابقاً هو ظروف العمل. إضافة إلى ذلك كان عليَّ أن أحرِّرَ أفكاري وكتاباتي طبقاً لمصالحِ الصحيفة. الآن، وبعد أن عملتُ روائياً وحققتُ استقلالاً ماليّاً يمكنني اختيار المواضيع التي تهمني وتتلاءَم مع أفكاري. على أيّ حال، أنا أستمتع دائماً بفرصةِ كتابة قطعة رائعة للصحافة…”
والحق أن العلاقة بين الصحافة وفن السرد عموماً، علاقة وثيقة، تقوم على التأثير المتبادل، والإغناء المتبادل ليس فقط في مجالِ اللغةِ واللهجة والموضوعات، بل في التقانات والأساليب، وهنا أعودُ إلى تجربة غابرييل غارسيا ماركيز حينَ تحدّثَ عن ذلك بشكلٍ غير مباشر، ولا سيّما يوم سأله أحد الصحفيين عن وصفِهِ أحداثاً غرائبيّة بالتفصيل الدقيق، ما منحها واقعيتها الخاصة، فأجاب: “تلكَ حيلةٌ صحفيّة يمكن تطبيقُها على الأدب مثلاً، إذا قُلت إن عدداً من الفيلة طارُ في السماء، لن يُصدِّقكَ الناس. أمّا إذا قُلتَ إن هناك أربعمئة وخمسة وعشرين فيلاً في السماء فقد يصدِّقونك. مئة عامٍ من العُزلة تحفل بهذا النوع من الأحداث. أتذكّر بشكلٍ خاص قصّة الشخصيّة المحاطة بالفراشات الصفراء. عندما كنتُ صغيراً كان عامل الكهرباء يأتي إلى منزلنا. كان الفضول يقتلني عندما أشاهده يستعمِلُ حِزاماً يُعلِّق بهِ نفسه على عامودِ الكهرباء. كانت جدّتي تقول إنّه كلما أتى ذلك الرجل إلى منزلنا يتركُهُ مليئاً بالفراشات. لكن عندما كنتُ أكتب اكتشفت أني إذا لم أقل إنَّ الفراشات كانت صفراء فإن الناسَ لن يصدّقوني. عندما كنتُ أكتب حادثة صعود الحسناء ريميديوس إلى السماء، استغرقت مني وقتاً طويلاً لأجعلها قابلة للتصديق” ، وليس هذا فحسب، فقد أكد ماركيز في غير مكانٍ وغيرَ مرّة على هذهِ الصلة الجميلة بين الصحافة والرواية، كأن يقول:” الروايةُ ساعدتِ الصحافةَ عندي لأنَّها أعطتها قيمة أدبيّة. والصحافة ساعدت رواياتي لأنها فرضت عليَّ الحفاظ على صلة وثيقة بالواقع”. ثمَّ يقولُ في توصيف بعض خصوصياتِ كل من الصحافة والرواية:” في الصحيفة، حقيقة واحدة زائفة تسيءُ إلى العمل بكامله. على النقيض من ذلك ففي الرواية حقيقة واحدة صادقة تعطي المشروعيّة للعمل كلّه. هذا هو الفرق الرئيس، وهو يتعلَّق بالتزام الكاتب. يمكن للروائي أن يفعل كل ما يريد طالما استطاع إقناع الناس بما يقول” .
وبصورةٍ عامة فقد رأينا أنَّ العمل الصحفي كان رافداً ثَراً للتجربةِ الروائيّةِ والقصصيّة لكتّابٍ متميّزين؛ فمن منا لا يذكرُ إرنست همنغواي الذي غطّى وقائعَ الحرب الأهلية في إسبانيا، وكان صحفيّاً في جبهات القتال في الحرب العالميّة الأولى، وأثَّر ذلك في ثيماتِ أعمالهِ، وفي أسلوبهِ اللغوي؛ فنُسبَ إليهِ ابتكار الأسلوب التلغرافي، وكذلك الصحفي والأديب الروسي قسطنطين سيمونوف، الذي غطّى وقائع معارك الحرب الوطنيّة العظمى(العالمية الثانية)، فكتب قصيدته الشهيرة “انتظريني وسأعود” وغيرها من النصوص الأدبيّة الشعريّة والسرديّة، ومثله الروائي السوفييتي الذي عمل مراسلاً حربيّاً للصحف السوفييتية خلال معارك الحرب المذكورة؛ واستفادَ من تجربتهِ تلك في كتابة روايته الثلاثيّة ” الحياة والمصير”، ولن تنتهي سلسلة الصحفيين الأدباء عند هؤلاء، بل ستستمر وتطول حتّى لحظتنا هذه.
إضاءات- د. ثائر زين الدين