قد يتذكّر كثيرٌ من قراء الأدب ومحبّيه قصّة دوستويفسكي مع ناشِرِهِ الطمّاع بل الخسيس ستيللوفسكي، يومَ وقّعَ الروائي صيف 1865عقداً يُلزِمُهُ لقاء ثلاثة آلاف روبل أن يمنح الناشر المذكور حقَّ إصدار مؤلفّاتِهِ في ثلاثة مُجلّدات، وأن يُقدِّم روايةً جديدةً بحجم اثنتي عشرةَ ملزمة قبلَ الأوّل من تشرين الثاني 1866. وصولاً إلى تلك الحادثة مع رواية “المقامر”، حين أنجزها الروائي في 26 يوماً تقريباً وبدأ يبحث عن الناشر، الذي هَرَبَ حتى خارج بطرسبورغ كي لا يتمكّن دوستويفسكي من تسليمها في الوقت المحدّد، فيُطبّق الشرط الجزائي وتؤول ملكيّة أعمال الروائي إلى الناشر، ويذكُرُ محبّو الأدب الفرنسي قصّة فولتير مع ناشِرِهِ جان فريرون الذي كان يسرقُ جُهدَهُ الإبداعي، وثمّة مئات القصص المتعلّقة الُمشابهة بأنواع الأعمال الإبداعيّة المكتوبةِ أدباً وموسيقا ولوحاتٍ وسواها ما دَفَعَ المبدعين وغيرهم إلى الدفاع عن حقوقِ مُلكيّتهم لإبداعاتهم، تلك الحقوق التي يراها كثيرون أكثر قداسة من حقوق الملكيّة الماديّة المختلفة، ذلك أنّها نتاج فكرِ المبدعِ وروحِهِ.
لكنّ كثيرينَ لا يعلمون أن حقوقَ المترجمين، الذين لولاهم ما تمكّن مئات الملايين من الناس من قراءةِ صفوة إنتاجِ البشريّةِ الفكري والأدبي والثقافي عموماً، ظلت ضائعة إلى زمنٍ قريب، وهي حتى الآن ضائعة في بلدانٍ كثيرة من بلدان العالم الثالث ومنها الوطن العربي، بدءاً من إغفالِ اسم المترجم تماماً وعدم وضعِهِ على كتابهِ مروراً بحجب الاسم عن صفحة الغلاف ووضعِهِ على الصفحات الداخلية، وصولاً إلى توقيع عقودِ ترجمةٍ مُجحفة مَعَهُ لا تعطيه حقّه المالي، وقد تكون عقود بيع أزليّة، تحاول أن تلغي علاقة المترجم بكتابِهِ حيّاً وميتاً، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
والحق أن هؤلاء الناشرين يجهلون؛ أو لا يريدون أن يعرفوا، أن حقوق المترجم مسألة أُقرِّت منذ مؤتمر بروكسل 1858م يومَ اعترفَ المؤتمرون وأقرّوا أن حقوق ملكيّة المؤلف تستمر 50 عاماً بعد وفاته، بينما تستمر حقوق ملكيّة المترجم لعملهِ حتى 10 أعوام، ليُتابع مؤتمر أنغيرس بحث المسألة عام 1861، وقد ذكَرَ د. جمال شحيّد في إحدى مُحاضراتِهِ “أنّ أوّل مؤتمر أدبي دولي – بهذا الشأن – انعقَدَ في باريس بمناسبة إقامة المعرض الدولي فيها عام 1878، وتأسّست جمعيات وطنيّة لإقرار حقوق الملكيّة الفكريّة على مستوى العالم الغربي خصوصاً. ونُظرَ في مسألة الترجمة على أنّها الفرصة المُناسبة لاستقبال الآخر في لُغَتِهِ. وركَّزَ تورغينيف على اختيار المُترجم المكين. وطلبَ والت وايتمان باستبعاد المترجمين اللصوص…”
وتوالت المؤتمرات الخاصة بالحقوق – وفق د. جمال شحيّد – من لشبونة عام (1880) إلى فييّنا (1881)، إلى روما وبيرن وبروكسل وانغيرس وجنيف وصولاً إلى مؤتمر نيروبي (1976)، وأُقرّت الاتفاقيّة الدوليّة الخاصة بحقوق المؤلف CUDA ووقّعهَا في جنيف عديدٌ من الدول بإشراف منظمة اليونيسكو، وقد جاءَ في مقرّرات مؤتمر نيروبي “أن حق المترجم جزء من حق المؤلف، وأكّدَ على ضرورةِ حماية المترجمين وترجماتهم وتطبيقها ميدانيّاً، وطالبَ بإنشاء الدول إطاراً قانونيّاً يحمي عمل المترجمين”، ويُذْكَر أن المؤتمر المُشار إليه قد وَصّفَ عمل المترجم وحدّد واجبات مهنتِهِ الأخلاقيّة وحقوقها وأوصى – كما وردَ عند د. جمال شحيّد – بالإجراءات العمليّة التالية:
” 1) كتابة عقد بينَ المترجم ودار النشر يتضمّن أجراً مُنْصِفاً ونسبة على المبيعات.
2) التزام النص بحذافيره مع إمكانيّة وضع حواشي توضيحيّة من طرف المترجم.
3) ذكر اسم المترجم على الغلاف وفي الداخل.
4) التزام الناشر بتأمين الدعاية الترويجيّة.
5) تُحدّد هيئات التحكيم في حال حصول خلاف.”
وقد وضعَ ما سُمّي “ميثاق المُترجم”، عام 1963، وعُدِّل عام 1994 في أوسلو وضَمَّ ما يشبه توصيفاً دقيقاً لمهنةِ الترجمة وظروفها وواجباتِ أصحابها وحقوقهم، وممّا جاء فيه أنّ على المترجم أن يُقر بأن عمله يأتي لا حقاً لعمل المؤلف أو بمعنى آخر هو عمل مُلحق بعملِ المؤلف، وعليهِ أن يخضَعَ لنصٍ كتبَهُ إنسان غيره، وبالتالي فمن الضروري أن يكونَ أميناً في نقِلِ أفكار النصِ وأسلوبِهِ وطريقة تفكيره، ولا يجوز له التصرّف بالنص حذفاً أو زيادةً أو ماشابه ذلك لكنّ من حقّه أن يستخدم إضاءات معينة على شكلِ حواشٍ أسفل النص الأصلي ومن الطريفِ في هذا الميثاق – وهو أمرٌ أرجو أن ينتبه إليهِ المترجمون عندنا جيداً – أنّ على المترجم ألّا يرضى بخفض أجور الترجمة، طمعاً في منافسةِ سواه، لأن ذلك في المحصلة النهائية يسيءُ إلى هذا الجهد الجليل وإلى هذهِ المهنة النبيلة… إلى غير ذلك ممّا أرى أن على المترجمين وأصحاب دور النشر ووزاراتِ الثقافةِ في البلاد العربيّة الاطلاع عليه والعمل بمضمونه.
إضاءات – د. ثائر زين الدين