الملحق الثقافي:
ثمة مسافة بين جذور الإبداع، منابعه ومصبه النهائي، قد تطول وتقصر، قد تتغير المنابع والثمار، فما الذي يمكن للشاعر أن يقوله عما ألهمه، وكيف، وإلى أين يتجه؟ ذات يوم سئل نجيب محفوظ: لماذا تصور المجتمع المصري متخلفاً، تنقل امراضه الاجتماعية؟ فكان رده: أنا لم أنقل إلا جزءاً من الحقيقة، الواقع أسوأ مما نقلته. فماذا عن الشعراء، هل تخلوا عن منابع الإبداع الأولى، أم تركوا منجزهم النهائي منه وتمنوا لو أنهم استطاعوا التخلص منه، على الرغم من أنه هوية وبصمة فيما قدموه؟
قد تكون الإجابة على ذلك عند محمود درويش الشاعر العربي الفلسطيني الذي مثل الكثير من التحولات، وتغيرت منابع إلهامه، يعترف في حوار له مع عبده وازن أنه يتمنى لو استطاع التخلي عن نصف إبداعه الماضي، للوصول إلى الشعر الصافي، فهل يعني هذا أنه تمنى لو لم يكن النضال ملهماً له؟
في سياق الإجابات ثمة ما يجده المتابع:
-مع صدور مجموعتك الكاملة للمرة الثامنة عشرة كيف ترى إليها؟ ما الذي تحبه فيها وما الذي تكرهه؟ كيف تنظر الى البدايات التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية؟
–حين اضطر الى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي أنني لا أنظر الى ماضيّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها، أو ألا أكون نشرت جزءاً كبيراً منها. لكنّ هذه مسألة لم تعد منوطة بي، إنها جزء من تراثي. لكن تطوري الشعري تم من خلال هذا التراكم وليس من خلال القفز في الفراغ. لذلك عليّ أن أقبل بطاقة الهوية هذه كما هي، وليس من حقي إجراء تعديلات إلا بقدر المستطاع، أي تعديلات على بعض الجمل وعلى بعض الفقرات أو حذف بعض الأسطر، من منظور الاعتبار الجمالي وليس من أي منظور آخر. ولو أتيح لي لكنت دائم التنقيح في أعمالي. ولكن لو أتيح لي أيضاً أن أحذف لكنت ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي وليس من حقي على ما يبدو. هذا أنا في مراهقتي الشعرية وفي صباي وفي شيخوختي، أنا كما أنا. وأعتقد أن كل شاعر لديه حاسة نقد ذاتية، ينظر النظرة نفسها الى أعماله. وأريد أن أقول هنا إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ففي التراث العربي مثلاً عندنا طرفة بن العبد، وفي التراث العالمي هناك رامبو. ثم هناك شعراء يولدون “بالتقسيط” وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة. وأرى أن مشكلة الولادة في دفعة واحدة عمرها قصير.
-هناك ظاهرة عجائبية في مثل هذه الولادات!
— هناك عبقرية خاصة وربما مأسوية. فالشاعر الذي يولد دفعة واحدة لا يستطيع أن يواصل عمره الشعري. أما الشعراء الذين يولدون على مهل فتتاح لهم فرصة من التجربة والكتابة لا تتاح لمن يصبّون تجربتهم في دفعة واحدة، ويصمتون مثلما فعل رامبو. هذا السؤال صعب أصلاً على كل شاعر يستطيع أن يكتب شعراً في العشرينات، ولكن هل يستطيع كل شاعر أن يكتب بعد الستين؟ هذا هو السؤال الصعب.
-ولكن هناك أمثلة متضاربة في هذه القضية!
— كل شاعر يملك جواباً خاصاً أو ربما هو يملك حظاً خاصاً. وأعتقد ان الحظ في آخر الأمر هو الذي يلعب دوراً في نشأة الشاعر، وفي قدرته على التطور. ولكن قبل الحظ هناك انتباه الشاعر إلى عيوبه الشعرية، انتباه الشاعر الى مأزقه الشعري. وكل شاعر يحل مأزقه بطريقته الخاصة، ولكن ليس التكرار هو أفضل الطرق، أي تكرار ما قاله الشاعر أو كتابة تنويعات على ما كان كتب من شعر.
– ما رأيك بالمبادرة التي يقوم بها شعراء بحذف شعرهم الأول وإنكاره؟ وهذا ما قام به مثلاً الفرنسي رينيه شار أو الشاعر أدونيس؟ هل أخفيت أنت قصائد أولى لك وخصوصاً عندما كنت في فلسطين؟
— أنا لم أنشر في كتب كل ما كتبت من شعر. بعضه نشر في الصحافة، وبعضه لم ينشر. مجموعتي الشعرية الأولى حذفتها كلياً ولا أعترف بها البتة وكانت صدرت في فلسطين أيام الفتوّة. وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصية وشعرية. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف. هذه هي المسألة الشائكة. حتى في مرحلتي الراهنة، كتبت قصائد عدة لم أدرجها في مجموعاتي الشعرية. نشرتها في الصحف ولكنني لم أضمّنها كتبي. من حق الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضاً.
التاريخ: الثلاثاء20-10-2020
رقم العدد :1017