العنوان ليس مجازياً وإنما هو عن الغرق المادي الذي تنتهي به حياة كثير من الشبان الأفارقة الذين يغامرون بحياتهم بشكل شبه يومي من أجل الوصول إلى الشمال الأوروبي بأمل الظفر بحياة بديلة عن حياتهم البائسة. مضحين بمدخراتهم على ظهر قوارب صغيرة في رحلات خطيرة تنتهي في كثير من الأحيان بالغرق في أعماق البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
يحيل الأوروبيون سبب هذه الحالة المأساوية المستمرة للظروف الاقتصادية الصعبة في الدول الإفريقية التي تدفع الشباب لمحاولة الحصول المميتة على فرصة عمل في أوروبا، وبهذا يتم التغاضي عن دور الأوروبيين أنفسهم في خلق تلك الظروف الاقتصادية الصعبة، من خلال تحكمهم باقتصاد المستعمرات السابقة، ونهب مواردها، والإبقاء عليها في حالة متخلفة بإعاقة مشاريع التنمية، وإشعال الحروب المحلية على أسس قبائلية وطائفية ومناطقية وقومية. وهي سياسة لم تتبدل منذ بدايات السيطرة الاستعمارية الأوروبية، وأحد شواهدها العربية محاولة منع مصر من إقامة السد العالي وما تلى ذلك من تداعيات بلغت ذروتها بالعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الصهيوني عام 1956. وما تتعرض له سورية منذ استقلالها وحتى اليوم من مساعٍ غربية لعرقلة نموها الاقتصادي والاجتماعي.
لكن هناك سبباً آخر للمأساة قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، وهو تحطيم الإرث اللغوي للدول المستهدفة. وأول إشارة لهذا الأمر – على الأرجح – وردت في مقالة للروائية السنغالية والوزيرة السابقة (خادي فال) نائب رئيس جمعية خريجي الأدب الألماني الأفارقة، ففي هذه المقالة التي نشرتها مجلة (فكر وفن) الألمانية قبل نحو عشر سنوات تحدثت الكاتبة عن الإرث اللغوي الاستعماري متخذة السنغال نموذجاً، حيث أقرت اللغة الفرنسية منذ الاستقلال مطلع الستينيات كلغة رسمية. وحتى اليوم لا تزيد نسبة المتحدثين بها عن ثلاثين بالمئة من عدد السكان وهو ما يخلق مشاكل لا حصر لها للشباب الأفارقة. فهذا النظام التعليمي يسلب الشباب فرصة تلقي علومهم بلغاتهم المحلية حتى يتمكنوا من النجاح في الوسط الذي يعيشون فيه، ويصيبهم باليأس من قدرة لغاتهم الإفريقية على مساعدتهم في تحسين آفاق حياتهم. وهذا النظام التعليمي هو أيضاً أحد أسباب الحالة المزرية للمهاجرين الأفارقة، ذلك أن الطالب يكتفي بتعلم المفردات والمصطلحات التي يتكرر استخدامها.
تقابل الحماسة للغات الوطنية والقومية، ومنها لغتنا العربية، بردود فعل متباينة قد لا يكون أسوأها اعتبار تلك الحماسة أمراً عاطفياً أو مشاعر حالمة لا تتفق ومستجدات العصر، ولا تتناسب مع متطلباته، وكأن معرفة لغة أجنبية يفترض بالضرورة إهمال اللغة الأم حتى لو كان هذا الإهمال يتخذ أشكالاً مثيرة للسخرية كما هو حال تطعيم الحديث بكلمات وتعابير لا لزوم لها من اللغة الإنكليزية (أو الفرنسية)، رغم معرفة المتحدث الضحلة بها، وإضعاف بعض الحروف القوية في لغتنا كلفظ وكتابة القاف همزة بتوهم أن ذلك يجعل صاحبه أكثر عصرنة، ونشر مواضيع ثقافية على النت باللهجات المحكية، وتعمُدْ محطات تلفزيونية عربية تقديم نشراتها الإخبارية باللهجة المحكية بادعاء أنها تجعلها أقرب إلى المشاهد – المستمع، في حين أنها في واقع الحال تجعله أكثر بعداً بعد أن اعتاد منذ البداية الاستماع إلى تلك الأخبار باللغة الفصحى فكان هذا الشكل الجديد (المبتكر) أشبه بترجمة فورية رديئة.
التعصب للغة الأم إلى حد رفض معرفة أي سواها ليس أكثر سوءاً من اعتبار لغة أجنبية ما بديلاً كاملاً للغة الأم، فبمقدار ما ينطوي الأمر الأول على انغلاق لا تبيحه المفاهيم الثقافية، ينطوي الأمر الثاني على مخاطر بعض منها انقطاع الصلة بالإرث الثقافي، والتعرض لأخطار تشبه الإبحار في المجهول.
وليس في التعبير ترميزاً فحسب، وإنما دلالة أيضاً على واقع معاش.
إضاءات- سعد القاسم