الأدب والدروب الموصلة إلى الواقع

  الملحق الثقافي:وائل حمشو:

إن المنطق يعني ببساطة الفن والأسلوب الذي يساعدنا على تصحيح تفكيرنا. أما الأدب فهو ببساطة حديث القلب، وللقلب تفكير لا يفهمه العقل أبداً. يقول فولتير: “إذا كنت ترغب في التحدث معي، عرّف ما تقول وحدد قولك”.
الأديب لا يتحدث مع أحد، بل يفرغ مكنونات روحه وقلبه وعقله على الورق في عزلته المقدسة مع قلمه، لأنه يؤمن بأن نقائص الإنسان مستمدة من عصره، بينما فضائله وعظمته من نفسه.
وكون الأديب عظيماً، لا يعني أنه فوق الإنسانية، بل يعني أنه يقف فوق الشهوات بكل أنواعها، وأنه يحكم نفسه بنفسه، لأن سمو الأديب في التحرر من الغرائز وتحكمها، وهذا السمو هو الذي يجعل قلمه حراً.
كل البشر ليسوا مهيئين بطبعهم لاحتمال النظام الاجتماعي، ولكن الخطر هو الذي ولد فيهم الاجتماع. وبشكل خاص الأدباء، لأن ثقافتهم وفضائلهم تدفعهم إلى اعتناق الحرية والسفر في أعماق الذات. فالأديب إنسان أعطته الطبيعة أحد كنوزها الثمينة، وعندما تعطي الطبيعة، فإنها تُدخل السرور إلى الإنسان، ليس من الناحية الاقتصادية، بل من خلال آثار تجربة الحب الأولى في العلاقة مع الأم الكبرى، تجربة الوفاق مع الحياة التي تمد بمشاعر الأمن والسكينة الداخلية.
هكذا يكون الأديب عندما يحيا في عالمه الخاص، ولكن هذا العالم الخاص يقض مضجعه واقع اجتماعي يجعل حياة الأديب قاسية، ويجعل الواقع كالطبيعة الغاضبة مصدر معاناة بما تفجره من عدوانية طفلية كامنة في أعماق اللاوعي الاجتماعي، ترتد ذات الأديب على شكل تهديد خارجي.
لقد ترك لنا أسلافنا كل المعارف الضرورية التي تؤسس لنا مجتمعاً راقياً.. وعلينا فقط أن نتقن القراءة. فالواقع الاجتماعي في عصر الجاهلية وما بعده كان يعطي أهمية كبيرة للأدباء، بشكل خاص الشعراء، فكان لهم الأثر الكبير في نشر وترسيخ الفكر والمعتقدات، وخلق الشروط التي تسمح بتعايش أشكال الحياة المختلفة، لكن الواقع الاجتماعي الحالي والمليء بالمتغيرات التي لم تتضح معالمها بعد، جعل المشروع الثقافي الذي يهدف إلى تطوير البشرية السليم، وخفيف العواقب السلبية، وتبديل نمط الروح الاجتماعية – من السعي إلى الرفاهية إل قيم الصحة والأمن والحاجة الروحية- يعاني من الفشل في ظل انتشار المافيات الإعلامية التي تعمل على نشر الفكر المادي الاستهلاكي لتحقيق الغنى الفاحش لأصحابها على حساب الإنسان وقيمه وصحته وفكره.
إن التفكير الحقيقي الذي يجب أن ينطلق منه أي كاتب يبحث عن الإبداع، هو التفكير بأساليب جديدة، لأن الفكر الصحيح يجعل من المستحيل التفكير بالطريقة القديمة، والتقيد بإطار الشرطية الاجتماعية والتاريخية. وهذا الأسلوب تمارسه الفلسفة وبه تمنح روادها القدرة التي تسمح لهم بالحصول على المعارف عن الواقع على أساس الاستدلال.
أما الأديب فلا يستطيع الإبداع من دون الاعتماد على الظروف المحيطة والجو الثقافي العام والواقع الاجتماعي، وشخصية الكاتب التي تتبلور بالتراكم المعرفي الموجود لديه من تقنيات البحث في الكتب، وفي خبايا الواقع الاجتماعي الذي يكتب عنه وقدرته على تحليل وسبر أغوار هذا الواقع.
فالمسألة تكمن في معرفة الإنسان كيف يوجه حياته في هذا الواقع المليء بالألغام، من أجل إكسابها الشكل الأكثر جمالاً، وتحقيق الشخصية ومسارها الحياتي المبدع المؤثر بالثقافة وبالتقاليد وبالناس من خلال التواصل الواقعي معهم. لأن التواصل المباشر على أرض الواقع مع المجتمع يجعل الأدب يصل إلى الناس منكهاً بنكهة روح وفكر الأديب، على عكس السائد في الزمن المعاصر، حيث كل شيء يشيد ويركب وينشر بواسطة التقنية. وهذا الانتشار الغزير والمتكرر لأشياء جديدة، يؤدي إلى تبديل العادات والقيم، حيث كل شيء يتبدل ويؤدي إلى انتشار النزعة العدمية التي تضع نفسها في خدمة كل شيء.
هذا العصر في تاريخ الإنسانية، خلق مجتمعات فقدت خصوصيتها وساد فيها نسيان الوجود في سبيل حرف الموجود. وطغى على أسلوب الحياة والتفكير السرعة والتفاهة، فلم يعد أحد يتوقف لحظة مع ذاته لتأمل أي نص أدبي، أو لمراقبة انفعالاته التي حرضها النص. وأصبح المجتمع يطالب الأديب بالإيجاز والتبسيط، وكأن الأدب وجد لخدمة الإنتاج المعاصر الذي يتسم بسمة السرعة ومرتبط بتفاصيل الحياة اليومية. ولهذا فقد الأدب عمقه الروحي وأصبح سطحياً، لأنه أصيب بالفقر بعد أن قطع صلاته وعلاقاته القديمة بالواقع الاجتماعي الحقيقي الأصيل، وظهرت أزمة الصراع بين الحداثة والكلاسيكية، بين إبداع الكاتب الذي ينشئ حقيقة غير موجودة، ومتلقٍ لا يؤمن إلا بالمحسوس، الأمر الذي خلق لوحة يتقاسمها الإنسان المعاصر والعالم غير صحيحة، فالعالم اليوم هو التكنولوجيا التي خلقناها والتي تخلقنا بدورها.
وبالتالي هذا الواقع الذي أصبح يعيش فيه المجتمع والذي يضغط وبقوة على تحويل الإنسان لشخصيته وذاته لن يتغير من دون تغير الثقافة والمجتمع ككل.
إن الجديد لا يتشكل من تلقاء نفسه، بل من الاتصال والتواصل حيث تصاغ المعايير الرئيسية للجدة. وخلف هذا كله تتراءى حياة أخرى جديدة مغايرة لوجود فرد واحد. إنها الحياة الاجتماعية والكونية والروحية.
الإنسان الفرد عندما يفكر ويؤلف ويخلق، ليس هو الذي يقوم بذلك، بل شيء ما فيه، فالأديب لا يبدع إذا لم يتطابق التعبير الذاتي لشخصيته مع وجود الحياة الروحية والكونية والاجتماعية، وإذا ما عاش الأديب الهموم والأفكار المشتركة للثقافة الإنسانية يفشل في الكتابة ويفشل في الإدراك المباشر لمقدرته على العمل، لأنه يفشل في التحليل الفكري، ويفشل في الحياة. وعندما يفشل الإنسان بشكل عام، والأديب بشكل خاص في الحياة، تقوى دوامة الأزمات وتبتلع كل شيء.
والشاعر أودن لخص هذه الحالة بقوله: “ضع السيارة بعيداً، حين تفشل الحياة. فأين فائدة الرحيل إلى بلاد أخرى”.
الميل الشديد للمجتمعات إلى الحياة العملية السريعة، أجبر أغلب الأدباء على الرحيل من عالم الرواية والشعر العمودي إلى القصة القصيرة وشعر التفعيلة، ثم الرحيل إلى القصة القصيرة جداً والشعر المحكي، والآن عدد لا بأس به من الأدباء حزم حقائب كلماته على نية الرحيل إلى الهايكو والومضة والشعر النثري.
وما هذا التقهقر وهذا الفشل في الحياة بشكل عام إلا نتيجة الإدراك الحسي المباشر وتعلق الإنسان بالحاضر وهو يشعر باللاجذرية وفقدان الهدف وتراجع الخيال. وعندما يتراجع الخيال تتراجع الرواية والشعر. والآن نرى أن الأدب هو صورة فكرية في نهاية الأمر. ومحاولة لإظهار معنى ما بعيد عن وجود هذا المعنى، أو عدم وجوده في الواقع. وكون الواقع الثقافي للمجتمع تسوده الثقافة السطحية. والإنسان لا ينفعل إلا بما يعرف “بعيداً عن دقة هذه المعرفة”، وحيث يكون وقع الانفعال وتأثيره أشد كلما تعلمنا أكثر، أو كانت معارفنا أقل. وهكذا فإن الأديب العميق يصاب بالخيبة نتيجة عدم ذهول المجتمع لهذا الأدب.
ويصبح الأديب الحقيقي وحيداً في المجتمع، حيث تبدو العلاقة بينه وبين المجتمع محزنة جداً، لأنه ليس بحاجة إلى أي إنسان في هذا المجتمع، فيتنحى عن ساحة المجتمع، لأن الإنسان فيه لا يستطيع أن يقدم شيئاً للأديب، والأديب لا يستطيع أن يأخذ منه شيئاً، فيراقب الأديب المجتمع عن بعد، ويحدث نقص لدى الأديب بالتفاصيل والعلاقات الاجتماعية ويحدث نقص في التفاعل والانفعال بينهما، فيتعمق الحزن عند الأديب، وربما يصاب أدبه بالكثير من الخلل جراء الخروج من الدروب الموصلة إلى الواقع، فيذهب إلى حيث لا يعلم ويبدأ بالتفكير بغير السائد، ويصنع من الوهم أزهاراً.

التاريخ: الثلاثاء10-11-2020

رقم العدد :2020

آخر الأخبار
الرئيس الشرع يستقبل وفداً كورياً.. دمشق و سيؤل توقعان اتفاقية إقامة علاقات دبلوماسية الدفاع التركية تعلن القضاء على 18 مقاتلاً شمالي العراق وسوريا مخلفات النظام البائد تحصد المزيد من الأرواح متضررون من الألغام لـ"الثورة": تتواجد في مناطق كثيرة وال... تحمي حقوق المستثمرين وتخلق بيئة استثماريّة جاذبة.. دور الحوكمة في تحوّلنا إلى اقتصاد السّوق التّنافس... Arab News: تركيا تقلّص وجودها في شمالي سوريا Al Jazeera: لماذا تهاجم إسرائيل سوريا؟ الأمم المتحدة تدعو للتضامن العالمي مع سوريا..واشنطن تقر بمعاناة السوريين... ماذا عن عقوباتها الظالمة... دراسة متكاملة لإعادة جبل قاسيون متنفساً لدمشق " الخوذ البيضاء" لـ "الثورة: نعمل على الحد من مخاطر الألغام ما بين إجراءات انتقامية ودعوات للتفاوض.. العالم يرد على سياسات ترامب التجارية "دمج الوزارات تحت مظلّة الطاقة".. خطوة نحو تكامل مؤسسي وتحسين جودة الخدمات بينها سوريا.. الإدارة الأميركية تستأنف أنشطة "الأغذية العالمي" لعدة دول The NewArab: إسرائيل تحرم مئات الأطفال من التعليم الشعير المستنبت خلال 9 أيام.. مشروع زراعي واعد يطلقه المهندس البكر في ريف إدلب برونزية لأليسار محمد في ألعاب القوى استجابة لمزارعي طرطوس.. خطّة سقاية صيفيّة إيكونوميست: إسرائيل تسعى لإضعاف وتقسيم سوريا المجاعة تتفاقم في غزة.. والأمم المتحدة ترفض آلية الاحتلال لتقديم المساعدات أردوغان يجدد دعم بلاده لسوريا بهدف إرساء الاستقرار فيها خطوة "الخارجية" بداية لمرحلة تعافي الدبلوماسية السورية