صدرت في الآونة الأخيرة مجموعة من القرارات عن رئاسة مجلس الوزراء بتعيين إدارات جديدة في مفاصل عديدة ومؤسسات هامة فاعلة في إطار الخدمة العامة أو عمليات التنمية، في ظل ظروف صعبة تعيشها البلاد بحكم الحصار الاقتصادي والحرب المدمرة التي تعرضت لها.. هذه القرارات تنبئ برغبة في تفعيل عمل المؤسسات الخدمية والاقتصادية، اعتماداً على رأسمالنا البشري وكتلتنا الحيوية، التي تعتبر من وجه نظرنا الأساس في تحقيق نقلة مناسبة ونوعية في وضعنا الاقتصادي ونهوض إدارتنا التنموية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن معظم إن لم نقل كل الدراسات الاقتصادية تؤكد على أن أهم عوامل نجاح التنمية الاقتصادية تكمن في الإدارة الناجحة، فليس المهم شكل الملكية أو طبيعتها وإنما المهم هنا الثقافة الإدارية ودرجة كفاءتها، حيث يطرح السؤال عن النظرية الإدارية التي تعمل وفقها مؤسساتنا الوطنية في ظل الحديث عن إدارة أوروبية غربية ويابانية أو غيرهما، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإدارة تقوم على مجموعة من القواعد والقيم والمهارات العقلية إلى جانب كونها طريقة تفكير، واتخاذ قرار، يستجيب لموقف، وحاجة، وظروف معينة، ومستوى اقتصادي واجتماعي، وحالة تحد تواجه مجتمعاً بعينه، وإذا أسقطنا العناصر آنفة الذكر وبالمقارنة مع أنماط إدارية عالمية يمكننا القول أننا أمام إدارات تنطلق من مجموعة عناصر في مقدمتها التلقين والتنفيذ للتعليمات الصادرة من المستويات العليا، وتتميز بالبلاغة اللغوية والشعاراتية، وفنون الجدل، والتلاعب بالألفاظ، وإبراز الجانب الشخصي للمدير وقدرته على فرض رؤيته في العمل، وصعوبة التمييز بين الذات والموضوع والبراعة في اكتشاف قصور أو تقصير الآخرين، وتصيد الأخطاء، ونسيان أو تناسي إنجازات من سبق، ومحاولة تشويهها والاقتصار على دبلوماسية التوجيه والوعظ، واستخدام العبارات المجهضة للحوار وعبارات الإقصاء، هذه النماذج من السلوك هي ما يصطدم بها من يحاول دراسة النمط الإداري المحلي السائد في معظم مؤسساتنا، وهو ما يدعو للاستغراب حيث نجدها تجهد نفسها في البحث عن النموذج الجيد والمناسب، وهي تدرك أكثر من غيرها أنها غير راغبة في تغيير نمطها الأوتوقراطي التسلطي والتضييق على أية محاولة تقوم بها بعض الإدارات الناجحة والكفؤة، لتغيير النمط السائد عبر مبادرتها وأسلوبها العلمي وطرائق إدارتها للعمل بروح ورؤية جديدة، تنطلق من المنهج العلمي في التحليل وفن استثمار الموارد البشرية، والعمل بروح وثقافة الفريق الواحد ومبدأ الإجارة بالأخلاق والإنجاز.
إن ما يسم الإدارات الكسولة والفاشلة التي تتهرب من المسؤولية لأسباب عديدة، منها الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد هي إضافة لما ذكرنا الاهتمام بالجزئي على حساب الكلي، والتركيز على النجاح بالجزئي على حساب الخطة العامة، والعناوين الكبيرة، ما يؤدي للخلط بين الإنجاز والنتيجة والمحصلة، ما يفقد الإدارة روح العمل الجماعي حيث يصبح (البطل) في الإنجاز الفرد لا الجماعة يضاف إلى ما تمت الإشارة إليه مسألة التذكر بدل التوثيق، ما يفقد المؤسسات خاصيتين أساسيتين في الإدارة الحديثة و الناجحة وهما تقارير العمل السابق وبيانات تقدم العمل وأنساقه ونظمه، لذا نجد أن هذا النمط يقع في عدة محظورات وهي التفكير السلبي أي تقديم المخاطر على فرص النجاح، والتفكير في مشكلات التطوير لا فرصه وإيجابياته.
مما تقدم تبدو الحاجة ماسة إلى بلورة نظرية إدارية وطنية تقوم على جملة من المبادئ، وتتناسب مع الصلاحيات مقرونة بالمهام والإمكانات المتاحة، وتوفر بيئة تقوم على مجموعة من العناصر تتيح للقيادات الإدارية الكفؤة تنفيذ رؤاها بالعمل، وتوفر سبل النجاح لها، وعدم عرقلة مشاريعها، ووضع العصي في عجلاتها، والتركيز على مبدأ الشفافية في عمل المؤسسات، والتقويم المرحلي للأداء وقاعدة الإنجاز الكلي والمسؤولية الجماعية وتنمية المؤسسة بدل تنمية الذات وتضخمها، ومجد المؤسسة بدل فكرة الزعامة وتضخم الأنا وتنمية المجتمع لا المدير والوزير.
إن ترسيخ وتوطين مثل تلك المفاهيم في ثقافة الإدارة هو الخطوة الأساسية والحاسمة للحديث عن عقل إداري وإدارة ناجحة وفاعلة ومنجزة قادرة على التفاعل مع معطيات نجاح الإدارة الحديثة، التي يمكن أن يطلق عليها الإدارة بالإنجاز والإدارة بالأخلاق، وليس بالوعظ والاتهام والادعاء .
إضاءات – د . خلف المفتاح