ثورة أون لاين- عبد الحليم سعود:
لقد كشفت جائحة كورونا أو ما يطلق عليها (فيروس كوفيد 19) التي اجتاحت العالم خلال العام الحالي هشاشة غير متوقعة في النظام الغربي (الأميركي والأوروبي بشكل خاص) الذي يصنف نفسه (رقم واحد) في كل ميادين الحياة، بحيث انهارت نظمه الصحية وعجزت عن التعامل مع المخاطر المترتبة على انتشار الفايروس التاجي في المجتمعات الغربية التي اجتاحتها موجة جديدة أكثر فتكاً وسط عجز عن إنتاج أدوية أو لقاحات ذات جدوى في معالجة المصابين، ولم تقتصر الأضرار على الجانب الصحي حيث أصيب الملايين بالعدوى وتوفي مئات الآلاف، بل تعرضت ميادين أخرى لأضرار كبيرة لم تكن بالحسبان بحيث انعكست على الواقع الاجتماعي، بطالة وتسريح عمال للتخفيف من أعباء وتكاليف الرواتب والأجور ولم تكن الأضرار السياسية بأقل من ذلك، حيث ساهم كوفيد 19 بالتخلص من فايروس السياسة الأميركية دونالد ترامب الذي خسر امام منافسه الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة، فكان الفايروس هو الناخب الأبرز الذي حسم نتيجة الانتخابات.
وليس هذا فحسب بل شهد المجتمع الغربي انهيارا في منظومة القيم التي يتبناها ويروج لها ويتدخل بشؤون الدول الأخرى تحت عناوينها، ويعتبر الانقسام الذي ظهر عليه الغرب في مواجهة أزمة فيروس كورونا أبرز مثال على أزمة القيم الغربية التي تسيّدت النظام العالمي لعقود طويلة، فأية قيم تلك التي تجعل الدول الغربية تقوم بسرقة الشحنات الطبية من بعضها البعض في مشهد مُخزٍ للغاية؟.
فقد اتهمت ألمانيا الولايات المتحدة الأمريكية باستيلائها على 200 ألف كمامة طبية، واتهمت فرنسا هي الأخرى الولايات المتحدة بسعيها إلى الحصول على شحنة مساعدات طبية كانت متجهة إلى فرنسا من الصين، هذا الصراع امتد لدول أوروبية أخرى كـ أوكرانيا والتشيك وإيطاليا، ولم تنتهِ أزمة القيم عند هذا الحد، بل امتدت إلى حد التراشقات الكلامية بين دول أوروبية والولايات المتحدة الأمريكية حول محاولات التوصل إلى لقاح للفيروس، حيث عجزت الأنظمة الغربية عن إعطاء الأولوية لمفهوم الأمن الإنساني باعتباره المفهوم الأشمل، لتحل مكانه المصالح الخاصة.
لقد أبرزت هذه الأزمة وجود قصور شديد للغاية لدى معظم المؤسسات والحكومات الغربية، بحيث أصبحت غير قادرة على أداء عملها، مكتفية بدور المتفرج، باستثناء بعض الخُطب الرنّانة التي عجزت عن إيجاد حلول لعلاج الأزمة ومساندة شعوب الدول الأعضاء فيها، وكانت الفضيحة الأكبر في الغرب هي انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من منظمة الصحة العالمية في أوج حاجة المنظمة للمساعدة والتمويل من أجل مواجهة الوباء القاتل، وقيام بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بفرض عقوبات وحصار اقتصادي على دول تواجه خطر العدوى بإمكانات متواضعة في أقبح سلوك أخلاقي يمكن أن يمارسه الغرب إزاء هذه الأزمة العالمية التي لم تستثن أحداً .
فقد قطع الرئيس الأمريكي التمويل عن منظمة الصحة العالمية، كما عجز وزراء مالية الاتحاد الأوروبي عن التوصل إلى اتفاق بشأن إعداد خطة مالية متكاملة لمواجهة الأزمة بسبب الخلافات بين الدول الأوروبية حول أولويات هذه الخطة المالية.
وقد ظهر الاتحاد الأوروبي غير متحد في هذه الأزمة، ما طرح تساؤلات مثل: ما هي جدوى التكتلات الاقتصادية الكبيرة حين تفشل في التعامل مع أزمات من هذا النوع.
لقد أسقطت كورونا ورقة التوت عن عورات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وقد سبق للاتحاد أن فشل في التعامل مع العديد من الأزمات التي واجهته إذ ترك الاتحاد الأوروبي اليونان وحيدًا لمواجهة أزمة الديون، وترك إيطاليا وحدها تواجه موجات الهجرة غير الشرعية إليها، وكان فشله الأكبر عندما عجز عن وضع إستراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب العابر لحدوده، وكان من أكثر الجهات التي صدرت إرهابيين لتنظيم داعش قبل انهيار التنظيم في سورية والعراق.
كما أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية عجزها في قيادة النظام العالمي، بل وتسببت بحدوث فوضى عارمة في هذا النظام انعكست بشكل سلبي على دور الأمم المتحدة ووظائفها كأكبر منظمة دولية ترعى السلم والأمن الدوليين بحيث باتت هي الأخرى أضعف من أن تتخذ قرارا واحدا يمكن أن يوقف حرباً أو يحل أزمة أو يواجه مشكلة.
لقد أوضحت جائحة كورونا أن المجتمع الدولي والغربي بشكل خاص مصاب بعقم فكري وجمود حركي وأضحى غير قادر على مواجهة التحديات بفاعلية بسبب عدم قدرته على إيجاد صيغ مشتركة للعمل الانساني وعدم قدرته على الإجبار الطوعي للدول للانخراط في سياسة عالمية تعاونية.
وقد تجلّت (أزمة القيم) في مواقف عدد من الدول الغربية، حيث أعطت الأولوية للشباب وصغار السن في تلقي العلاج من الفيروس وإبقاء كبار السن على كراسي الانتظار، ناهيك عن تأخر دول العالم الرأسمالي في فرض إجراءات الحجر الصحي لأن الكارتيلات الصناعية والمالية والاقتصادية لا تتحمل طويلاً مثل هذه الإجراءات.
إن الفردية التي يتمتع بها النظام الرأسمالي الغربي كانت من أهم أسباب تفشي الفيروس في دوله ومجتمعاته، حيث رفض الأفراد هنالك الانصياع إلى قرارات السلطات بالحجر الصحي ومقاومة الفرد الدائمة للتحكم السلطوي، وبالتالي خرجت الأمور عن السيطرة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث رأينا الحكومة الفيدرالية الأميركية تعاني من عدم القدرة على فرض سلطاتها على حكومات الولايات، ما أدى إلى عدم وجود خطة شاملة لمواجهة الفيروس، وأصبح كل حاكم ولاية يُغني في سربه. في المقابل أظهرت القيادة الصينية قدرة أكبر في المعالجة ما كان سبباً مباشراً في الحد من انتشار الفيروس وإصدار قرارات ينصاع إليها الجميع حيث أثبت المجتمع الصيني أنه أكثر تطوراً وتحضراً وتكاتفاً من المجتمع الغربي.
إن عالم ما بعد كورونا سيختلف كثيراً عما قبله، ولا شك أن الغرب سيدفع أثمان أخطائه في مجابهة فيروس لا يُرى بالعين المجردة وانهيار القيم في مجتمعاته ونخبه الحاكمة.