لا تطور بنيوي لأي مجتمع دون عملية نقد جريئة لمسطحاته التاريخية وتضاريسها وحركتها والغوص عميقاً في البنية المعرفية القائمة على تكوين العقل الجمعي من خلال معول هجم وبناء حقيقي يزرع في الحقل المعرفي بذوراً جديدة، فنقد مخرجات الثقافة العربية لا يمكن أن يؤدي النتائج المرجوة دون نقد مدخلاته نقداً جريئاً قائماً على منهج علمي وأدوات معرفية فاعلة، إنها أشبه ما تكون بعمل جراحي يجريه طبيب بهدف استئصال المرض من جذوره وهذا ما ذهبت إليه شعوب سبقتنا في سلم الحضارة العلمية لعل أقربها التجربة الأوربية حيث لم تستطع أوروبا الخروج من حالة التخلف التي عاشتها مئات السنين إلا بعد الثورتين الفلسفية والفكرية التي قادها رواد النهضة الأوربية الحديثة واحتضنتها البورجوازية الأوربية الصاعدة آنذاك وقد عبر عن ذلك التحول الشاعر الفرنسي آرثر رامبو بقوله: لو لم تخض أوروبا معركتها مع نفسها وتصفي حساباتها مع ذاتها التاريخية أي تراثها المسيحي القديم لما استطاعت أن تفلح حضارياً وتسيطر على العالم.
إن المشكلة الكبرى التي تواجه أي تيار فكري يحاول نقد البنية الثقافية لمجتمع ما وإعادة بنائه على أسس علمية وعقلية هي الثقافة الاجتماعية السائدة التي تواجه الثقافة الصاعدة وهو ما جعل الفلاسفة والمثقفين مجترحي التغيير شديدي الحذر في مقارباتهم تلك من هنا جاء قول رينيه ديكارت- أنا أتقدم مقنعا – في إشارة إلى أن القوى المحافظة أقوى من قوى التغيير وتستطيع ضربها وإيذاءها واتهامها ومهاجمتها في أيّ لحظة ولا شك أن مجتمعاتنا العربية شأنها شأن أيّ مجتمعات أخرى مرت وتمر في ظروف تاريخية معينة ساهمت في بناء وتشكيل بنيتها المعرفية وذهنيتها ونظرتها للوجود والحياة يأتي في مقدمتها الفكر الأسطوري والنصي لاحقا ليكون أكثر الأوعية امتلاء في ثلاثية أوعية العقل وفق فلسفتي هيغل الألماني وبرتراند راسل الإنكليزي وهي الأسطورة، والفلسفة،والعلم.
وبالعودة للعنوان وهو نقد الذات المعرفية العربية فقد بات من الضروري لنا نحن العرب وفي المقدمة النخب الثقافية والفكرية والفلسفية والسياسية والدينية وكل من حمل أو يحمل مشروعاً أو رؤية لنهضة الأمة أن يكون أكثر جرأة في مواجهة ومعاينة الواقع ونقده موضوعياً وبشكل عقلاني وعلمي وتبيان الأسباب التي أوصلتنا إلى ذيل السلم الحضاري كمحصلة عامة لا تلغي بعض الاستثناءات على الرغم مما نمتلكه من ثروات اقتصادية وبشرية ومخزون حضاري تشكل في زمن ما تحولت ومع الأسف إلى نقاط ضعف عند العرب بدل أن تكون نقاط قوة فالثروات الاقتصادية تبدد بصورة عجيبة في أسواق الاستهلاك صنعتها عولمة وليبرالية حديثة تعمل على تسليع كل شيء بما في ذلك البشر وهو ما جاء في جزئية من حديث السيد الرئيس بشار الأسد في جامع العثمان هذه الثروات بدل تحولها إلى قوة منتجة علميا تحولت إلى قوة داعمة لنهضة الغرب وتحريك عجلة إنتاجه لتزيد من الفجوة المعرفية بيننا وبينه بدل جسرها.
لقد حاول رواد النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وكان قد سبقهم قبل ذلك فلاسفة عرب ومسلمون كبار أمثال ابن رشد وابن حزم تقديم وصفة علاج للنهوض بالأمة وعلى الرغم من أن العديد منهم قد تلمس الإجابة الصحيحة إلا أن المشروعات التي اختطوها والفلسفات التي حملوها لم تجد طريقها إلى النور ما أفقدها مضامينها وبقيت في دائرة السجالات والمماحكات الفكرية والفلسفية وأبراجها العاجية دون أن تتحول إلى وعي شعبي وجماهيري مطابق وعاشت سكونيه قاتلة مئات السنين .
إن الحاجة تبدو ماسة لفعل ثقافي ومعرفي جريء له طابع المشروع يقوم على طريقة الصدمات لتحريك الراكد في مسارنا التاريخي وحركتنا الاجتماعية التي يبدو أن رياح الماضي التي تحمل الكثير من غباره والقليل من أنواره تهب عليه من كل اتجاه لحرفه عن مساره الصحيح.
إضاءات – د . خلف المفتاح