الهوية هي شعور بالانتماء إلى وطن وبالنتيجة انتماء إلى أمة في فضاء أوسع وأشمل، وأعتقد أننا لسنا بحاجة لرحلة بحث عن الهوية، ولكن ثمة من يشتغل ويعمل للدفع بنا إلى ساحة جدال حول الهوية والانتماء، وهذا كله يجري في سياق استثمار ما شهدته المنطقة العربية من أحداث خلال السنوات الماضية، وما شابها من أشكال العنف والقتل والتطرف، وما استجره ذلك من طرح أسئلة عميقة لم تكن خلال عشرات السنين مسائل خلافية أو حتى مطروحة بقوة في حقل النقاش الهوياتي أو ضاغطة في ساحة الجدل الفكري كالانتماء الوطني والقومي، وغير ذلك من أشكال الانتماء، وهذا باعتقادي من أهم الأسباب التي جعلت السيد الرئيس بشار الأسد يفرد لها كل هذه المساحة من حديثه في جامع العثمان لجهة أن التحديات الوجودية المتعلقة بالهوية والانتماء والولاء لا يمكن إهمالها أو تأجيلها مهما كانت يوميات الناس ضاغطة لأن تلك اليوميات لها سمة الراهنية.
إن الانفجارات المجتمعية التي حدثت في بعض الأقطار العربية والاحتجاجات في بعضها الآخر وأشكال الإرهاب والتطرف الذي حصل لا يمكن إرجاعها إلى قاعدة رفض مجتمعي واع للكيانات الوطنية القائمة ومحاولة استبدالها بكيانات على حوامل أخرى في فضاء أوسع حتى لو كانت الفكرة الداعشية القائمة على الإقصائية الدينية والمذهبية وفكرة المؤامرة قائمتين، فثمة أسباب تتعلق بالبناء السياسي وشكل السلطة والصراعات الاجتماعية ومتلازمة الفقر والفساد والاستبداد، فالمسالة هنا تتركز حول فضاء سياسي ديمقراطي حقيقي وحكم رشيد وعدالة وحكم للقانون لا تحكم وتسلط.
لقد ارتبطت ظاهرة العنف والإرهاب التي شهدتها المنطقة العربية ببروز القوى الإسلامية أو لنقل المتأسلمة في الواجهة لتستثمر الحراك الذي حصل في بعض الأقطار العربية كونها الأكثر تنظيماً في ظل غياب أحزاب فاعلة وقوى سياسية منظمة ومجتمع مدني راسخ لتتصدر المشهد وتقصي الحركات السلمية التي لا تؤمن بالعنف طريقاً للتغيير والإصلاح في سعي منها لاستبدال الاستبداد السياسي بالديكتاتورية الدينية المتطرفة وهي الأشد خطورة على المجتمعات من غيرها مستخدمة في ذلك العنف والإرهاب والقتل ليكون الطريق الموصل للسطو على السلطة بدل صناديق الاقتراع إضافة إلى أنها استخدمت كأداة لإسقاط الأنظمة التي تقف في وجه المشروع الأميركي الصهيوني، وتحمل رسالة العروبة الحضارية وأعني سورية على وجه التحديد.
إن السعي للتغيير السياسي ورفض أنظمة الاستبداد شيء، والتمرد على الكيانات الوطنية والهوية الجامعة شيء آخر، ولا يمكن الربط بينهما، فالساعون واللاهثون للانقضاض على الهوية الجامعة وجدوا في الأحداث التي عصفت بالمنطقة فرصتهم للانقضاض على الهويتين الوطنية والقومية، ومحاولة ضرب العلاقة بين العروبة والإسلام متخذين من موقف بعض الحكام العرب أو لنقل المحكومين بإرادة الأجنبي وأجندته ذريعة ليماهوا بين مواقف الحكام وموقف الشعوب التي هي في الأساس ضحية سياساتهم الذيلية ومؤامراتهم على الأمة العربية منذ أن نصبوا في الحكم ليؤدوا الدور الوظيفي المرسوم لهم.
إن الدعوات المشبوهة التي بدأت تدفع باتجاه الانتماءات الضيقة ومحاولة اصطناع أو الاشتغال على مخيال اجتماعي فئوي وتبينه في عملية سطو وسرقة للتاريخ مسألة محكوم عليها بالفشل لأنها تفتقد بعدها المعرفي الحقيقي، ولا تعدو كونها عملية تجميع أوراق مبعثرة من التاريخ المتخيل لا تجد لها سنداً موضوعياً، فالتاريخ ليس بيتاً مهدماً تحول إلى كومة أحجار يمكن إعادة ترتيبها وبنائها رغبوياً أو حسب الحاجة، فهو حقائق ووقائع تحفظها الذاكرة وبطون الكتب وشواهد الجغرافية والذاكرة الجماعية النظيفة غير المتحزبة، وهذا بعض من جوهر ما أشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته التاريخية في جامع العثمان وحسم فيها الكثير من القضايا السجالية التي تدور بين النخب مع محاولات خبيثة لجعلها في مسرح الرأي العالم لجهة إيجاد اصطفاف حولها يؤدي بالنتيجة إلى حالة من الانقسام المجتمعي الذي يضرب العقد الاجتماعي السوري والشامي إن جاز التعبير ويشظي الفكرة السورية والعربية الجامعة آخذاً في الاعتبار أن حديث السيد الرئيس عن عروبة سورية وعروبة القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يعني أننا في حالة ضياع فكري أو بحث عن هوية وراشدة نستدل منها على هويتنا فالعروبة بالنسبة لنا انتماء وليست خياراً.
إن الربط بين ما يجري من ارتدادات على الساحة القومية من تحلل على المستويين الوطني والمجتمعي وبين مفهوم الهوية هو ربط غير موضوعي، فالمسألة مرتبطة أساساً ببنية الحكم وطبيعته وسلوكه وفساد الأنظمة لا بل إن المصلحة الوطنية والمجتمعية تكمن في الفضاءات الوسعة والتكتلات ما فوق الوطنية، وهذا حال أكثر دول العالم في عصرنا الحاضر، حيث تتقلص المسافات بين الدول في عولمة لا تعير أي اهتمام أو حساب للكيانات الصغيرة بل تبتلعها او تضعها على القارعة في طريق سريع نحو المستقبل.
إن السعي والبحث الجاد عن إطار قومي جامع للرد على الشعوبية الجديدة لم يعد ترفاً أو رومانسية سياسية بقدر ما هو حاجة ومطلب وضرورة تستدعيها التحديات الوجودية التي تواجه أوطاننا وأمتنا العربية وهي في دائرة الاستهداف والخطر، فاللحظة التاريخية حاضرة وضاغطة والزمن لا يرحم من يؤجل قضايا وجودية كقضية الانتماء والهوية والعقيدة.
إضاءات- د. خلف المفتاح