مشهد آخر من فصول مهزلة الانتخابات الأميركية يرخي بظلاله اليوم على ساحة الأحداث الدولية، ترامب المهزوم يقود محاولة انقلاب واضحة على نتائج تلك الانتخابات، وبايدين المصدوم يأسف لوصول أميركا إلى مثل هذا الدرك الأسود، ويعتبر أحداث اجتياح الكونغرس اعتداءً على الحرية والديمقراطية، والشرطة تفكك عبوات ناسفة زرعها أنصار ترامب، وتستخدم الرصاص وقنابل الغاز لتفريقهم، وثمّة دعوات أميركية لمحاكمة ترامب، وأخرى لمواصلة الاحتجاجات رفضاً لعمليات التزوير، وهذا كله يشي باحتمال الانزلاق نحو دوامة عنف وفوضى تعمق الانقسام في الداخل الأميركي.
بعيداً عن هوس ترامب بالسلطة، وقتاله الشرس للتمسك بمقاليد الحكم، حتى لوكان ذلك على حساب أمن الأميركيين واستقرارهم، إلا أن تشبثه بتشكيكه في نزاهة العملية الانتخابية، وحديثه المتواصل عن حصول عمليات تزوير واسعة لبطاقات الاقتراع، يعطي برهاناً قوياً على زيف ادعاءات أميركا بأنها نموذج يحتذى في الديمقراطية والحرية، هذا النموذج الذي تعطي من خلاله الحق لنفسها بأن تكون شرطي العالم، توزع شهادات سلوك على دوله، وتتخذ منه أيضاً ذريعة للتدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول المناهضة لسياساتها، تحشد ضدها، وتشنّ عليها الحروب، وتغرقها بالفوضى وأعمال العنف تحت يافطة نشر الحرية والديمقراطية.
لو كانت الأحداث العاصفة بالداخل الأميركي اليوم، هي نفسها قد حصلت في دولة أخرى، لسارعت الولايات المتحدة على الفور وهاجمتها بقوة، وألصقت التهم جزافاً بحقّ أيّ رئيس منتخب ديمقراطياً، بحال كان هذا الرئيس أو ذاك يناهض سياستها، فتشكك بشرعيته، وبنزاهة العملية الانتخابية برمتها، وتطالبه بالتنحي وتسليم السلطة لأطراف أخرى هي ترعاها لخدمة مصالحها، وكلّ ذلك تحت مزاعم دفاعها عن الديمقراطية، وشاهدنا ذلك في الكثير من الدول التي تكنّ أميركا لها العداء، فيما الأمر يكون مختلفاً عندما يتعلق بالتناحر السياسي، والصراع على السلطة داخل أراضيها، فيغدو شأناً داخلياً لا يحقّ لأحد مجرد التعليق عليه، وهذا هو ترامب يرفض تسليم السلطة، ويضرب بعرض الحائط كلّ الدعوات التي تطالبه بضرورة تسهيل عملية الانتقال السلمي للسلطة، أليس هذا من مفارقات السياسة الأميركية الهزلية التي كشفتها معركة الانتخابات، وما تفرزه من تداعيات خطيرة تهدد الداخل الأميركي اليوم؟.
ثمة مفارقة أخرى كشفتها أحداث الكونغرس، تتعلق بالتملق الأوروبي هذه المرة، عندما عبر عدد كبير من المسؤولين الأوروبيين عن صدمتهم إزاء ما حصل، فزعم قسم منهم إلى أن الكونغرس هو (معبد للديمقراطية)!، وأن ثقتهم بهذه الديمقراطية لن تهتز، وأن قوتها هي التي ستسود على المتطرفين!، فمتى كان الكونغرس مركزاً لنشر الديمقراطية، وفيه تحاك المؤامرات، وتتخذ القرارات لشن الحروب وتدمير الدول؟ وأي ديمقراطية تلك التي لم تكن يوماً إلا ستاراً تلتحف به الإدارات الأميركية لممارسة كلّ أشكال البلطجة والعربدة بحق الشعوب الأخرى؟، وماذا أيضاً عن الديمقراطية الأوروبية التي تبيح ارتكاب الجرائم، وممارسة كلّ أشكال الإرهاب تحت مزاعم حقوق الإنسان وحرية التعبير؟.
كلمة الموقع – ناصر منذر