الملحق الثقافي:أمجد سيجري :
وُلد الفيلسوف السوري «كاسيوي لونجينيوس» Cassius Longinus حوالي عام 213 في مدينة حمص «إميسا»، ويعتقد أن اسمه الأصلي كان «ديونيسيوس»، أما اسمه الروماني «كاسيوس»، فيبدو أنه قد ناله في امتياز لاحق لعائلته، فعمّهُ هو البليغ والخطيب الحمصي «فرنتو»، الذي كان معلماً للبلاغة في أثينا.
عاش مع عمه في أثينا، وقد اهتم العمُّ بتعليم ابن أخيه البلاغة والخطابة، وحين حانت منيته، وكان على فراش الموت، جعله وريثاً له وأصبح مدرساً للبلاغة في أثينا من بعده.
يذكر «لونجينوس» بأنه قام في صغره بالعديد من الرحلات، زار خلالها العديد من البلدان مع والديه، وقد أحاطت حياته في أثينا، أسماء عديدة ومهمة من الفلاسفة الذين تمتع بينهم بسمعه عظيمة ومكانة مرموقة، حيث تلقى تعليمه على يد مؤسس الأفلاطونية المحدثة الفيلسوف الإسكندراني «أمونيوس ساكاس» أستاذ الفيلسوف الشهير «أفلوطين»، كما تعلم أيضاً على يد «أوريجانوس» الإسكندراني، الذي كان هو الآخر تلميذاً لـ «أمونيوس ساكاس».
في أثينا ألقى «لونجينيوس» محاضرات حول والنقد والخطابة والقواعد النحوية، ودرس الفلسفة الأفلاطونية لمدة ثلاثين عاماً هناك، فقد كان يعتبر أفلاطونياً حقيقياً، وهو ما يتضح من بقايا أعماله التي لا تزال قائمة، وكذلك من خلال التعليقات التي كتبها على العديد من حوارات أفلاطون.
لم تشرح تعليقاته الموضوع الذي ناقشه «أفلاطون» فقط، بل وتُظهر أيضاً، أسلوبه وقوته وإضافاته، فكانت تميل للمادية أكثر من الروحانية، ولهذا اعتبره «أفلاطون»، عالماً أكثر من كونه فيلسوفاً.
بعد أن أكمل تعليمه على يد «أمونيوس ساكاس» في الإسكندرية، عاد إلى أثينا وكرس كامل وقته لتدريس تلاميذه، حتى أنه لم يتبقَ له الوقت الكثير للكتابة، وكان أحد أشهر تلاميذه، الفيلسوف السوري الشهير «فورفوريوس الصوري».
بالرغم من قربه الكبير من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة «كامونيوس ساكاس» وأفلاطون» و»فورفوريوس»، فإن «لونجينيوس» لم يعتنق الأفلاطونية الحديثة، واستمر بكونه فيلسوفاً أفلاطونياً من النوع القديم، يبدو أنه كان لطيفاً جداً، فبالرغم من أن تلميذه «فورفوريوس» تركه والتحق بالأفلاطونية المحدثة، لم يُظهر أي سوء نية تجاهه واستمر في معاملته كصديق، ودعاه للحضور إلى تدمر مكان إقامته بعد أن غادر أثينا.
رحلته إلى سورية :
بعد أن أمضى معظم حياته في أثينا في التدريس، وتأليف أفضل أعماله، عاد إلى بلده سورية، لرؤية أصدقائه في «حمص» «إميسا» و لتسوية بعض شؤون الأسرة.
خلال هذه الزيارة، أصبح معروفاً في تدمر بالنسبة للملكة العظيمة زنوبيا التي طلبت منه المجيء لتدمر، وجعلت منه معلم الأدب اليوناني لها ولعائلتها، فقد كانت امرأة ذات موهبة كبيرة ومولعةً بالفنون والأدب.
بعد وفاة الملك أذينة زوج زنوبيا، استلمت زنوبيا السلطة كوصية على ابنها وهب اللات، بتشجيع من «لونجينيوس» الذي غدا مستشاراً لها، كما نصحها وشجعها على الثورة والاستقلال للتخلص من الحكم الروماني والتبعية الرومانية لمملكة تدمر، حيث غدت مدينة تدمر في عهدها، من أهم ﻣﺪﻥ ﺍﻟﺸﺮﻕ، حتى أنها ﻧﺎﻓﺴﺖ ﺭﻭﻣﺎ ﻭﺳﻴﻄﺮﺕ على مساحات جغرافية واسعة ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ ﺁﺳﻴﺎ ﺍﻟﺼﻐﺮﻯ، من ﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﻣﺼﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﻮﺏ الغربي، ﻭﻣﻦ ﺷﻤﺎﻝ ﺷﺮﻕ ﺳﻮﺭية، ﺇﻟﻰ ﻏﺮﺏ ﺳﻮﺭية ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻷﺑﻴﺾ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻂ .
بعد أن استشعر «أورليان» خطر تدمر الطامحة بالاستقلال عن إمبراطوريته، أرسل للملكة زنوبيا رسالةً يطلب منها الاستسلام، فردّت عليه رداً قويَّ اللهجة، مفعماً بالحيوية ترفض فيه كل مطالبه.
بعد عدد من المعارك، تمكن أورليان سنة 273 م، من القضاء على ثورة مملكة تدمر، ووقعت زنوبيا في الأسر واختلفت الروايات حول مصيرها، لأن المؤرخين القدماء تركوا روايات متضاربة، منها ما تأثّر بالدعاية المعادية المشوّهة التي وجدت بعد سقوط مملكة تدمر.
مثلاً، كتب المؤرخ الإغريقي – الروماني «زوسيموس» في القرن الخامس الميلادي، أنها توفيت قبل عبور البوسفور في طريقها إلى روما، وفقاً لهذا المصدر تكون زنوبيا قد انتحرت بسمٍّ ما، أو ربّما بالإضراب عن الطعام.
من الروايات أيضاً، ما يرويه المؤرخ «جون مالالاس» في القرن السادس ميلادي، فيذكر أن «أورليان» أهان زنوبيا من خلال السير بها عبر المدن الشرقية في أنطاكية، وقام بتقييدها وأجلسها على منصة في ميدان سباق الخيل لمدة ثلاثة أيام قبالة سكان المدينة، وفي النهاية قطع رأسها.
في العام 273م، وبعد سقوط تدمر، دفع «لونجينيوس» حياته ثمناً لنصيحته وجرأته، فسقط شهيداً بعد أن أعدمه الرومان إلى جانب عدد من رجال البلاط التدمري.
هكذا كانت نهاية هذا الفيلسوف المحب والمتحمس للفكر والحياة، المشهور بصراحته الكبيرة، سواء في التعبير عن آرائه أو فضح أخطاء الآخرين، تاركاً وراءه عدداً من الأعمال التي لم ينج منها إلا القليل.
من هذه الأعمال، كتاب «على النهايات» وشروحاته حول حوارات ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ التي كانت تدور ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻷﻭﻝ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﻭﺍﻷﺳﻠﻮﺏ، ﻭﺃﻫﻤﻬﺎ ﺷﺮﻭﺣﻪ حول ﺣﻮﺍﺭﻱ «ﺗﻴﻤﺎﻳﻮﺱ ﻭﻓﺎﻳﺪﻭﻥ» وبسببها كما سبق وذكرت، وصفه أفلاطون كعالم أكثر من كونه فيلسوفاً.
أيضاً، عمله الموسوم بالاسم «ﺍﻟﻤﺴﺎﻣﺮﺍﺕ ﺍﻟﻠﻐﻮﻳﺔ « وهو عمل مجموع ﻓﻲ 21 ﻛﺘﺎﺑﺎً جعلت علماء عصره يلقبونه بسببه ﺑﺎﻟﻔﻘﻴﻪ ﺍﻟﻠﻐﻮي، وكتابه «ﻓﻦ ﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺔ» الذي وصلت إلينا أجزاء منه، ويعتبر ﺷﺎﻫﺪﺍً ﺛﻤﻴﻨﺎً ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺍﻟﻮﺛﻴﻘﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻭﺍﻟﺨﻄﺎﺑﺔ.
باحث
التاريخ: الثلاثاء26-1-2021
رقم العدد :1030