الثورة أون لاين:- علي الأحمد:
تقف موسيقانا العربية بكل ثقلها التاريخي والإبداعي، أمام مفترق طرق ومسارات، خلقت واقعاً موسيقياً مغايراً، أدى في حقيقة الأمر، إلى تذويب منجزها الراسخ في التعبير عن الوطن والإنسان، لمصلحة لغة تغريبية، حافلة بالبُعد التجاري، الذي فرضته متغيرات اجتماعية وتكنولوجية وغيرها، على حساب البُعد الروحي والوجداني، الذي لازمها عبر التاريخ.
من هذه المسارات التي طرأت على هذا الفن، ما يمكننا اعتباره خروجاً عن القواعد والأصول المكرسة، بحجة التجديد ومحاولة دمج جوهرها الإبداعي في إطار بنية موسيقية مختلفة، وفرتها منظومة العولمة وما بعدها، بما أفقدها، الكثير من خصائصها وتقاليدها العالمة، كأحد روافد الثقافة العربية على مر الحقب والأزمنة، وخاصة في عالم يتغير بسرعة جنونية، نحو الفنون وتسليعها، تتحكم فيه مختبرات التكنولوجيا ووسائل الاتصال والإيصال، التي باتت تلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، في خيارات المؤلف او الملحن، كما بطبيعة الحال العازف والمؤدي، وهذا كله بالمجمل، انعكس على طقوس التلقي، والتذوق الجمالي، الذي انعدم تماماً، في مجمل منتوج هذه المنظومة المهيمنة، المحمّل والمدجج بلون الثقافة المتأمركة، التي فرضت نسقها على الجميع، بما تمتلك من منصات انتاجية وإعلامية تقارب وفق آخر الإحصائيات إلى حدود أكثر من ٩٥٪ بالمئة منها، وهذا يفسر وبشكل كبير، مدى التنميط والنمذجة الذي تسعى إليه هذه الثقافة المادية، ثقافة الجميع، أي لاثقافة أحد، حين تريد إغراق السوق بمعروضات هذه المنظومة، من أغان وموسيقا تعتمد الإبهار، كمسار وحيد لغزو العقول وتسطيح مجالات التذوق الجمالي، على حساب قيمة التنوع والإشراق الموسيقي الذي تتمتع به موسيقات الشعوب، بألوانها وتقاليدها الموروثة والأهم بخصوصية عناصر الإبداع فيها.
هذا المسار التجاري، الذي يلف العالم، أدى وسيؤدي، في واقع الأمر ، إلى العودة للجذور والروح الكلاسيكية التي أنتجت كل هذا الجمال الموسيقي العظيم، عبر العصور والأزمنة، وبالتالي عودة العطاء والحياة، إلى هذا الفن، عبر ما يكتنزه الكثير من الموسيقيين العرب، الأوفياء لهويتهم الموسيقية من علم ومعرفة والتزام حقيقي، بالدور الرسالي والأخلاقي الذي لازم تاريخ هذا الفن، وحقق له مكانة وموقعاً مهماً في تاريخ ومسرى الثقافة العالمية ككل، وهي عودة مظفرة، إلى القواعد والأصول ومحاولة خلق حالة إبداعية أسمى، تكون بمثابة فاتحة ومسار بدئي، منشود لنهضة موسيقية عربية حقيقية، تستفيد من الأدوات والتقنيات الوافدة، بحدود معرفية معقلنة، وإعادة تفعيل مسارات المثاقفة مع الآخر، في سبيل الوصول، إلى حلول ناجعة ومثمرة، للتأثيرات السلبية التي طالت هذا الفن النبيل، نتيجة للتغريب والغربنة واعتماد التقليد والتبعية كمخرج وحيد في نتاجات هذه الألفية العتيدة،وهذا لا يعني بحال من الأحوال، رفضاً كلياً، لهذه التقنيات الوافدة، بل السعي لامتلاكها وتطويعها خدمة لمسارات الكتابة والتأليف المعاصرة، التي لا بد وأن يدركها الموسيقي العربي اليوم، وهو يسعى الى تحقيق المعادلة الأصعب، وليست المستحيلة، مابين الأصالة والحداثة، بمعناها الكلاسيكي النبيل، وليس حداثة العولمة ومابعدها التي تقضي على قيمة التنوع والخصوبة في موسيقات الشعوب، ومنها بالتأكيد موسيقانا العربية، التي عانت كثيراً، ولاتزال، من سطوة وتسيّد البُعد التجاري على مجمل منتوجها الحالي، اللهم، مع بعض الاستثناءات المهمة التي تقدم عبر بعض الأمسيات والفعاليات، المتناثرة هنا وهناك، لم تستطع مع كل أسف، بالرغم من أهميتها، من مقاومة طوفات الأعمال التجارية الرديئة، التي تجتاح المشهد المعاصر من ألفه إلى ياءه.
-إذاً، لابد من التأكيد هنا، ومن واقع الحال الموسيقي المتخم بالنكبات والأزمات المستعصية، أن جهود هؤلاء الفرسان الجدد، ستكلل بالنجاح والنتائج المرجوة، مهما صادفتها من عوائق ومنغصات، لأن التيار التجاري السائد، استفذ حضوره ومكانته، لدى المتلقي العربي، وبات عبئاً ثقيلاً، على صنّاعه ومروجيه، بسبب التكلفة الباهظة، التي تصرف عليه، في ظل منافسة مستعرة، ما بين شركات الإنتاج ، التي تتسابق على نشر الرداءة والانحطاط الأخلاقي والتربوي، في فنٍ، كان على الدوام ملاذ هذا المتلقي، من وطأة الحياة، صحيح أن الطريق طويل وصعب، لكنه يحتاج الى صبر وإرادة، ودعم حقيقي من المال النظيف الذي يؤمن بالمشاريع الثقافية التنويرية، وهذا من شأنه، أن يقيم توازناً ملموساً ومثمراً، مع هذا التيار المهيمن، وبالتالي سيطرد هؤلاء الأدعياء والمهرجين الذين يحتلون المشهد بقوة المال الفاسد المُفسد، بلا رجعة.
وهذه ستكون خدمة جليلة من هؤلاء الفرسان النبلاء ، في إعادة مسارات الذائقة المستباحة، إلى سابق عهدها، من التلقي والإدراك الجمالي المنشود، وبالتالي، تقليص مساحة انتشار النتاجات الهابطة التي تغزو الأسواق الفضائية وغيرها من جهة ، ورفع سوية التذوق الجمالي عبر الموسيقا البديلة، التي يكتبها هؤلاء المبدعون، والتي تستحق كل التقدير والإشادة، من جهة ثانية.