الملحق الثقافي:إلهام سلطان:
من خارج حدود الوطن، يكتبون بيادرَ أرواحهم، وينشدون سنابلها قصيدة.. يرسمون كلّ حبة قمح، شمساً تضيء ليالي غربتهم، ليُشرقوا من جديد..
حوَّل وجع غربته، إلى بوحٍ خطّهُ في كتابٍ أهداه لدمشق الحبيبة. للأشخاص الذين مرّوا في ذاكرته، وما زالوا منارات فيها.. للحبِّ، للإنسان، للوطن، للشهيد، للأم، للمعلم، للغيمة، للدموع، للانتماء، ولكلِّ لحظة حوَّلت حياته إلى نبضٍ من كلمات.
نبضُ الإنسان والشاعر والأديب والمناضل المسكون بعشق الوطن. «جميل حداد».. صوت الأصالة التي لا تقامر، بالحياة التي تشدو للـ»البيادر»:
/بيدرٌ منه نأخذُ القمحَ سمحاً/ ثم نُعطي ليثمر المردود/ نزرعُ الخير واعداً أين سرنا/ نحمد الله مانحاً ما يجود/ حين يعطي الإله من بحرِ جودٍ/ تُمرعُ الأرضُ خضرةً والجرودُ/..
هذه الأبيات، تزين غلاف ديوانه «البيادر» مع لوحه تحمل الكثير من وهج روحه، وصدقه وشفافيته وإنسانيته. بيدر القمح الذي يتناثر في كل مكان، مع صورة الفلاح والأيادي المباركة التي تعشق الأرض، وتعطي بحبٍّ وسخاء تشرق منهما الحياة.
يتألف الديوان من ٣٥٢ صفحة، وهو من إصدار «دار البشائر «٢٠٢١»، ويعتبر الديوان السادس للشاعر الذي يبدأه:
«وقبلت بأصغريّ، صادقاً في حبّي الذي اعتبره كنزاً من كنوزي التي يعزِّزها العطاء والتواصل المستمر، وقد علمني ذلك الحبّ، أن تكون كلماتي مفتاحاً لكلِّ القلوب النبيلة التي أخاطبها، لأنني تعودت أن أقدمها لقارئي بأسلوب لا يقبل التعالي عليه أبداً».
بعد هذه المقدمة، تأتي مقدمات وتعليقات مجموعة من الأدباء والشعراء والكتاب والأصدقاء، على ديوانه الخامس «حصاد السنابل»، لتكون أولى قصائد «البيادر»:
/بيدرُ الخيرِ سحرهُ لا يجاري/ يمنحُ الخيرَ طافحاً ويجود/ فهو رمزُ العطاء إن رمت خيراً/ وهو رمز السّخاء والبذل جود/.
يحاور الشاعر يراعه، ويبوح له بأسراره، ويشهد على نبله في إتمام مهمته القوية والصادقة.. يحاوره بهمسٍ وجداني وإنساني شعري:
/قال اليراعُ لماذا تكتب يا جميل؟/. أنهكتني والحبرُ فيَّ قليل/ فليشهد القراءُ أنكَ شاعرٌ/ مسحَ الدموعَ وخانهُ المنديل/.
يجيبُ الشاعر يراعهُ الوضاء، بكلٍّ صدق وشفافية:
/فأجبتهُ إنّي على العهدِ الذي/ قدْ عاشَ دهراً ما اعتراهُ ذبول/ ما كنت يوماً في يمين منافقٍ/ والله يشهد والفِعال دليل/ إن كان حاملكَ الذي تسمو به/ قيمُ المحبة فالكثير نبيل/ فافخرْ بما يملي عليكَ بصدقه/ للسيّفِ صوتٌ واعدٌ وصليل/.
يتابع الشاعر بوحه لقلمه، طالباً منه المزيد من الإرادة في كتابة ما يحقق مراده. مراد كلماته وحروفه التي يسعى محباً ودؤوباً، لإيصالها إلى كل القلوب الصادقة: /فاكتب بما يمليهِ قنديل الرؤى/ ما خاب يوماً في الرؤى قنديل/.
لقد كان الشعر لديه يفعل فعل الرصاصة، فهو جاهزٌ دوماً للدفاع عن قيم الخير والمحبة. جاهزٌ للتمسك بقيم الحياة وأخلاقها ووجدانها، ولمواجهة أعداء الجمال والإنسانية، بالقصيدة لأنها:
/فالشّعر كالسّيف الذي نحتاجه/ عند المهمّة حدّهُ مصقول/ فاهنأ يراعي بالّذي قدمته/ فالعمر يمضي والعناء طويل/.
كل هذا، وتبقى قناديل كلماته، مخصصة لدمشق. قناديل الوفاء الباقية، وللمدينةِ التي شهدت أحلى سنوات عمره، واستحقّت قوله:
/نسيتُ الحبّ بعدكِ يا دمشقّ/ وإنّني عاشقٌ والعشقُ حقُّ/ وعشقكِ إن نأى في الليلِ يوماً/ أرى نبضي كأجراسٍ تدقُّ/ حمى الله الشآم من الضواري/ جواد الشّام في الميدان سبق/.
كتب أيضاً، قصيده بعنوان «عذراً دمشق» معتزاً بأرض الياسمين، ومفاخراً بعمقها التاريخي، ولأنها الباقية في وهج روحه تهبه الحياة أغنيات:
/تبقين أنتِ عروس المجد رافلةً/ بالسّارياتِ إلى التاريخ في بلدي/ أنت البهية إن ضاق الزّمان بنا/ أنتِ التي جعلت تاريخنا أبدي/ روحي ترفرف فوق/ الشّام تسألها/ تزيح عنّي غبار الهمّ والكمد/.
كتب لدمشق، ولكلِّ قطر عربي.. ذلك أن ألم العروبة كبير، ولجراحها أبعاد، كما «جراح بغداد».
/سألتُ بغداد عن أمجادها فبكت/ ودمعُ عينيها يكوي مُقلة الأسد/ من سحر بغداد صاغ الكون أسورةٌ/ تختال وشماً على الزندين والعضد/ أدمنت حبّها عشقاً لا مثيل له/ بغداد تسكن عينيَّ بلا رمد/ قلبي يفيض أسىً خوفاً على وطنٍ/ إن مزقوه فويل العرب للأبد/.
لا شك أنها الجراح التي مثلما نزفت في أرض فلسطين ولبنان، وتونس الخضراء والسودان، نزفت في قصائده. القصائد التي مثلما أدانت وواجهت أعداء وطنه وأرضه، أشادت بقوافلِ المجد والعزّ لرجالٍ، توّج بنصرهم شعره:
/قوافل المجد تمضي وهي تبتسم/ والنصر صبحٌ على الهامات يرتسم/ ونحن في دربنا جيشٌ يرافقنا/ ورفقة الجيش فخرٌ فيه نعتصم/ وجيشنا يقهر الطغيان مفتخراً/ بحضن شعب به الأمجاد تزدحم/.
كل هذا وسواه، نثره الشاعر في ديوانه، بيادر من القصائد الملتاعة كلوعة قلبه وروحه، وعلى بلده الذي استُهدفه وحوش الأرض، وانقضّوا على كلِّ ما فيه ونهشوا، جسده الذي من شدّة ما تألم، أدمعَ من تألمه شعره:
/أكتبُ الشعر باكياً حين تأتي/ كلُ هذي الوحوش من كلِّ قاع/ تستبيحُ الدّيار تستلُّ سيفاً/ يستطيب الدماء من أوجاعي/.
لا يكتفي، ويسترسل في الشعر الصادق الوفي. يتساءل كيف يختم قصائده، وقلمه يأبى إلا أن يكمل رسائله:
/لست أدري بماذا أختم شِعري/ بدموعِ الأباة أم بالتياعي/؟. طيب الله ذكر شعبٍ/ حقّق النصر بعد باعٍ وباع/. يا بلادي وللفداء طريقٌ/ نحن أهلوه ما دعانا الدّاعي/ كان منك الثّبات في يوم غدرٍ/ كان منك الصّمود يوم الصّراع/.
لا شك أنها «إشراقات» قصيدته التي كان لابدَّ من أن يرسم بها الأمل، بعد أن رسم الظلم الذي لحق ببلاده. الظلم الذي ستكون نهايته الزوال والاندثار، لطالما هناك شعب أبيّ، موشوم بالعزة والكرامة:
/إن للظلامِ درباً واحداً، فيه مرّ الظّالمون وأدركوا معنى الظّلامة/ ليس للحقّ فناءٌ، ليس للظّلم بقاءٌ، ليس للذلّ حياةٌ، فوق أرضٍ شعبها يبغي الكرامة/.
هذه هي «البيادر».. القصائد الناطقة بالكرامة السورية، والمنصفة لكلّ قضية عربية.. هذا هو الشاعر «جميل حداد».. ابن أرض الياسمين، وابن الجبال التي تكتنز في طيَّات حواكيرها الخضراء الساحرة، قصة الإنسان.
يحمل يراعه القرمزي بيدٍ، وبيادر القمح الذهبية باليد الأخرى. يرتّل للإنسانية أنشودة الصباح، وهو يعانق سنديانة متجذّرة في تراب بلاده.
التاريخ: الثلاثاء9-2-2021
رقم العدد :1032