الملحق الثقافي:ثراء علي الرومي:
ما بين موجةِ صقيعٍ وأخرى، تعصفُ بي موجة أسى عارمة، تنهمرُ معها عبرات حنين، لقد ذاب الثلج، ولكن ليس ثمَّة ما تخفيه المروج، فالأمواج العاتية حملت على متنها من رحلوا إلى خلف البحار، بألوانٍ شتَّى من الآمال والخيبات، ومن الظروف الموجبة والولاءات، ومنهم من بلغت بهم رحلتهم البحرية السماء، وقد ابتلعهم الموج، أما التراب، فلكم احتضن من أحبَّة، ليحمل من بقوا، راية صمودٍ أسطوري تنسج عنه حكايات، ومراكب أحزانهم يمزِّق الشوق والألم أشرعتها التي تتصدَّى لريحٍ صرصر، تعصف بكلِّ سُبل العيش الكريم.
أجرُّ قلمي لأكتب عما يعتمل في داخلي، فتغيم حروفي على السطور وقد تسربلت بالدموع، كيف لا، وتباشير الربيع تفردُ أجنحتها على الكونِ، فيما أتقاسمُ ومن حولي هطل خريف مروِّع؟.
لست سوداوية بطبعي، ولكنني أقرأ هذا في كلِّ الوجوه التي لا تكاد تستعيد وعي ملامحها العادية، حتى تتعمَّق فيها أخاديد دهشةٍ واستنكارٍ ويأس، أمام جنونِ أسعارٍ لا يرحم ولا يتوقف، وليس هناك من يروِّضه أو من يريد له ترويضاً.
أقرأ هذا في كلِّ انتظار عقيم، يجلد الوقت ويتقاسم كلّ لحيظاته، بين رغيف خبزٍ ومؤونة منزل وأسطوانة غاز ورسالة وقود لن تأتي، حتى يلفظ البرد القارس أنفاسه الأخيرة.
لا وقت لترفِ البكاء، بل ليس هناك من كتفٍ يتَّكئ عليه من يبكي، فكلّ منا لديه مدن من الدموع والأوجاع، ولكن عزاءنا الوحيد أننا على قيد الوطن.
قد يسأل أحدنا: “أيَّ رفاهية يمكن أن نقدمها لأبنائنا، ونحن بالكادِ نملك أن نزودهم بكسرة خبزٍ وكفاف يوم؟”. وأكاد أجزم أن هناك من يطهون الحصى لأطفالهم، على غرارِ قصّة كنا نقرأها بعجبٍ في مناهج اللغة العربية أيام طفولتنا، ولكن لا عجب من شيءٍ، في عالم تلتهمه حيتان ما بعد الحرب.
حين اشتدَّ أوار الحرب، بات سقف أحلامنا أن نعيش بسلام، ولكن يبدو أن قامة هذا السقف قد تقزَّمت أكثر، لتغدو غاية المُنى بالنسبة لنا، “أن نعيش!”.
سامحني أيها الوطن الساكن في مسامِ جلدي، وفي قلبي ووجداني.. لا أملك من ترفٍ أهبهُ لأبنائي، سوى دفء الأسرة الذي يفتقده سواهم ممن طحنت عجلة الحرب ما بقي من أحلامهم، لعلي بهذا أحصِّنهم ضدّ صقيعٍ يحاول عبثاً بتر أطراف الوطن، كلَّما سنحت له الفرصة، أدأبُ على تذكيرهم بنعمهم القليلة التي تخلو من أيَّ رفاهية تُذكر، لعلهم بهذا يدركون معنى الصمود والإرادة.
سامحني أيها الوطن.. ليست عزيمتي واهنة، ولم أفقد الأمل، ولكنها صرخة طالت حدود السماء، فاحتضنها، واعلم أنني أحاول جاهدة رتق ما بقي من أحلام، ولكن، هل في العمر متَّسع لأفراحٍ مؤجَّلة؟.. وهل تلفظ الأمواج ما ابتلعتهُ من أحلامٍ ولقاءاتٍ وبقايا أمنيات؟!.
التاريخ: الثلاثاء2-3-2021
رقم العدد :1035