الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود:
في غمرة التغول الأميركي ورغبة الولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة على العالم تحت عناوين جذابة وخادعة وتسويق قيمها وأفكارها بمختلف الطرق والأساليب ولو أدى ذلك إلى نشوب حروب وأوبئة ومجاعات ومختلف أنواع الأزمات، لا يزال البعض من “مثقفي” منطقتنا مبهورين ومأخوذين بهذا النموذج بحيث باتوا جزءاً من الحملة الدعائية التي تروج لمفهوم الليبرالية الحديثة التي يراد تعميمها وتقديمها كما لو أنها الحل الناجع لكل مشكلات المنطقة، دون أن يأخذوا بالاعتبار – وهذا متعمد طبعاً – أن العوامل الخارجية هي المسؤول الرئيس والأكبر عن كل ما تعانيه شعوبنا ومجتمعاتنا، فالتدخلات الغربية بأنواعها السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية..الخ لم تتوقف يوماً، وأخطر ما فيها أنها تريد اختراق مجتمعاتنا وتدميرها من الداخل وتكريس عادات بعيدة كل البعد عن قيمها وثقافتها الأصيلة.
فكل مجتمع لديه مجموعة من القيم والأفكار والعقائد تشكل الموروث الاجتماعي والثقافي والديني الذي ينتقل من جيل إلى جيل، في سبيل الحفاظ على بنيته الأخلاقية والمعرفية والدينية التي تحصنه من الداخل في وجه التأثيرات السلبية الخارجية التي تريد نسف تماسكه وترابطه وإلحاقه بمجتمع آخر، وذلك من أجل قبول كل ما يقدم له من قبل هذا الآخر الذي عادة ما يكون لديه مآرب وأهداف وأطماع “استعمارية” تتجاوز قيم التشاركية والمساواة بين مختلف الأمم والشعوب.
لقد استغل دعاة الليبرالية الجديدة أو الحديثة المفهوم أو المعنى الشائك لمصطلح الحرية بكل ما فيه من جاذبية لترويج أفكارهم الهدامة، ولكن الحرية الشخصية أو الفردية التي نادى بها هؤلاء تتناقض مع الحرية العامة وتقوّض بنيان المجتمع، وتمس بالسيادة الوطنية للدول على أراضيها، فكل شعب من الشعوب يختار الأنموذج الذي يناسبه في الحكم والسياسة والدستور والقانون وبقية الشؤون التي تخصه والمستمدة من موروثه الاجتماعي العقائدي، وعندما يتم فرض أنموذج غريب أو مستورد يكون ذلك مقدمة للاحتلال المباشر أو غير المباشر، كما يحدث في حالة “الديمقراطية” الأميركية التي يحاول النظام الأميركي فرضها بالقوة العسكرية أو عبر الضغوط السياسية والاقتصادية، ولم يحدث أن استطاعت الولايات المتحدة أو غيرها من الدول الاستعمارية فرض قيمها وثقافتها في بلد من البلدان، إلا وشهد هذا البلد أزمات ومشكلات وحروب لا تنتهي، حيث لا يزال الأنموذجان العراقي والأفغاني شاهدين على حقيقة الديمقراطية الأميركية المزيفة التي باتت موضع شك من قبل الأميركيين أنفسهم بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وإذا كان البعض يحاجج بألمانيا واليابان أو كوريا الجنوبية ” كنماذج تطورت اقتصادياً بسبب تدخلات أميركية مباشرة في شؤونها”، فالجميع يدرك أن التقدم الاقتصادي الذي حققته هذه الدول مربوط بالتبعية للاقتصاد الأميركي، وهو ما يمس سيادة هذه البلدان على المستوى السياسي، ولا أحد ينكر مشاعر الغضب التي تنتاب شعوب هذه الدول إزاء نهج الهيمنة الأميركي الذي يعتبر هذه الدول تابعة له بحيث يفرض عليها مواقف سياسية و”مشاركات في حروب مدمرة” لا تتناسب مع قيم وثقافة وأخلاقية مجتمعاتها، “المظاهرات البريطانية والغربية ضد غزو العراق كانت دليلاً على ذلك”.
إن محاولة تعميم ونشر الليبرالية الحديثة خارج حدود الدول الغربية هو أسلوب ممنهج ومدروس لتدمير المجتمعات الأخرى اقتصادياً واجتماعياً، وهو كما أسلفنا شكل من أشكال تبرير التدخل الخارجي بكل التفاصيل البعيدة عن أخلاق وقيم هذه المجتمعات، فمفهوم الحرية الفردية المطلقة، هو حق يراد به باطل لأنه يتناقض مع الحرية العامة والعادات والتقاليد، فحرية الفرد في اختيار جنسه “ذكر أو أنثى” خلافاً لولادته، وهو مفهوم شاذ يتناقض مع الطبيعة البشرية ويسيء إلى الأخلاق والأديان، فكيف يمكن تصور مستقبل البشرية، إذ اختار كل أفراد المجتمع أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً، أو إذا انتشرت ثقافة “المثلية الجنسية”، ألا يدمر ذلك المجتمع وينسفه من جذوره، فالمجتمع بالأساس ومنذ بدء البشرية قائم على هذه الثنائية، فكيف يمكن اللعب بأحد طرفيها أو بكليهما تحت عنوان الحرية الشخصية أو الحرية الفردية المطلقة؟!.
لو بقيت تطبيقات الليبرالية الحديثة في مجتمعاتها فقط، لما كان لنا حق الاعتراض عليها أو مواجهتها، فكل مجتمع حر باختيار ما يناسبه من قيم وأفكار” رغم أن بعض المجتمعات الليبرالية الغربية بدأت بتلمس خطورة أفكارها على مستقبلها”، ولكن أن تستخدم أنظمة الليبرالية الحديثة أدوات لها في مجتمعاتنا للترويج لأفكارها وقيمها الهدامة “ذات الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية المدمرة”، فهذا يستوجب مواجهتها بشتى السبل والوسائل وبأعلى درجات اليقظة والحذر، فالإنسان لا يكون حراً إذا لم يكن مجتمعه حراً، فعندما تقوم دولة مثل الولايات المتحدة بحصار شعب من الشعوب، كما تفعل ضد شعبنا من أجل إخضاعه لشروطها السياسية، في الوقت الذي تسرق ثرواته النفطية والزراعية وتحرمه منها في أوج حاجته إليها، يصبح من الجنون التفكير بتقبل أو قبول هذا الأنموذج المعادي للشعوب، فالثقافات والحضارات تتحاور وتتمازج وتتلاقح وتتلاقى بما يترجم مصالح كل أصحاب ثقافة أو حضارة، وكل ما عدا ذلك هو مجرد استعمار ترفضه المواثيق والشرائع الإنسانية وكذلك ميثاق الأمم المتحدة.