الملحق الثقافي:خالد عارف حاج عثمان:
في البدءِ كانت الكلمة.. مقولةٌ حفظناها، ولطالما رددناها في جلساتنا وندواتنا وتظاهراتنا، وعلى منابرنا الثقافية والإعلامية والنقدية، وحتى الاجتماعية.
في البدءِ كانت منطوقة، ثم صارت مكتوبة، وتحوَّلت الكتابة فيما بعد، من مهارةٍ تتخطَّى رسم وتقليد الحروف، إلى الإبداع نثراً وشعراً، منتجة المعلقات والقصائد الطوال والمقامات والأمثال والدراسات والبحوث، على مختلف مواضيعها ومشاربها.
لكن، لمَ كلّ هذه المقدمة، وما علاقة هذا الأمر بالكتابة؟!.. الجواب: إن العلاقة وثيقة، فلقد قرأت منذ أيام، وعلى إحدى الصفحات، طرحاً لإحدى الزميلات، وهي مدرِّسة للغة العربية، تغمزُ من قناة الكتابة التي تطلب آنياً، أي كتابة النص الوصفي النثري أو الشعري، وحسب الطلب.
كأن تقول إحداهن لشاعرٍ: صفني، أو اكتب فيَّ قصيدة، أو نصاً، أو سوى ذلك، وقد تعدَّى الأمر إلى ذكر ما يسمَّى دكاكين الشعر، أو الكتابة والتنقيح والتصليح والتصحيح، للنصِّ معنى أو مبنى، وما يتصل بهما.
تحفَّظت الزميلة المدرسة على الكتابة الطلبية، وبرهنت على أن الكتابة بحاجةٍ إلى إحساسٍ بما وبمن نكتب، وهذا لعمري عين الصواب.
إن طلب كتابة قصيدة، يشبه الولادة المتعثرة، أو حتى تلك المنتهية بموت المولود، أو الأم، أو الاثنين معاً.. حتى طلب كتابة خاطرة، أو موضوع إنشائي آنيَّين، لا يخلو من هذه السلبية.
سقى الله تلك الأيام، حين كنتُ طالباً في الأول والثاني الإعداديين، فقد قيّض لنا مدرِّس كان يحبِّذ فينا، ولا أقول يطلب، كتابة ما سمَّاها وقتها بالمذكرات، تاركاً لنا نحن الطلاب حرية الكتابة، أو تسجيل ما نشعر به، أو نحسّه تجاه كلّ شيء.
لم يلغِ مدرِّسنا حصَّة التعبير، كانت تلك منهجية وإلزامية، بينما المذكرات غير ذلك.. كم أحببنا المذكرات وكتبناها، وكم تباهينا ونحن نرى نصوصنا في مجلات الحائط منشورة، بعد أن نكون قد أوسعناها نقاشاً فكرياً وبنائياً وجمالياً.
عندما كنت معلماً في الجزيرة، كان الأهالي يطالبونني أن أدرِّب التلاميذ على كتابة الرسائل فقط، وذلك للحاجة الماسة إلى هذه المهارة لدى أبنائهم، ولكني لم أفعل واستبدلت ذلك بالمذكرات من قبل التلاميذ، ونجح الأمر بعيداً عن القوالبِ الكتابية الجاهزة.
وحين انتُدبت مديراً للمدرسة التطبيقية للمناشط الطلائعية، ومشرفاً على المنابر الإبداعية الطفلية الثقافية والأدبية والإعلامية، ومشاركاً في لجان تحكيم مسابقات رواد الطلائع، كنت أصرُّ على حرية الكتابة، وأن يجرّب الرائد والموهوب الكتابة، بعيداً عن حجزِ حريته للكتابة في موضوعات لا تهمه، ولا يشعر تجاهها بأيِّ إحساس.
كانت النتائج مرضيَّة دوماً، ولما صرت موجِّهاً تربوياً، كنت أصرُّ على إعطاء المعلمين والمعلمات والتلاميذ، شيئاً من الحرية للكتابة في كلِّ شيءٍ، وتوجيه المعلمين والمعلمات إلى ضرورة البعد عن التلقين، وتحفيظ المواضيع الإنشائية المنتقاة من قبل عدد محدود من التلاميذ، ممن كتبت لهم مواضيعهم، أو اعتمد فيها على الكليشات الجاهزة، والنماذج المنسوخة، وحفظها من قبل الصف كله للامتحان.
طبعاً، كلامي هذا يتَّصل من قريبٍ أو بعيدٍ بالقضية المطروحة.. لا تطلب من الإنسان أن يبدع، بل دعه يبدع وحده، وساعده، وأرشده، وضع بين يديه الأدوات التي تعينه على ذلك.
هذا يقودنا في النهاية، إلى حقيقة مفادها، أن لا كتابة أو إبداع، إن لم يشعر الكاتب، كائناً من كان، بالشيء أو القضية، أو أنها لامسته وتفاعل معها، ودفعته للكتابة، وبالتالي إنجاز النصِّ الإبداعي، لأن الحرية شرط الإبداع، والتفاعل والحساسية تجاه ما يكتب، هما أهم شرط للكتابة والإبداع.
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036