الملحق الثقافي:د. إبراهيم علوش*
مدخل إلى مفهوم المصطلح:
تُستخدم المصطلحات، والبعض يرى أن من الأفضل لغوياً تسميتها “اصطلاحات”، ومفردها “اصطلاح” بدلاً من “مصطلح”، لتنظيم العلوم والمعارف في المجالاتِ المختلفة، فكيف ندرس الفيزياء مثلاً من دون مصطلحات مثل “الجاذبية” و”التسارع” و”الكتلة”، وكيف ندرس الرياضيات من دون مصطلحات مثل “الاشتقاق” و”الدالة” و”المتغيرات”، وكيف ندرس علم الاقتصاد من دون مصطلحات مثل “الكلفة الحدية” و”توازن السوق” و”الكتلة النقدية”، وكيف ندرس المنطق من دون مصطلحات مثل “استدلال” و”برهان” و”استنتاج”، إلخ…؟.
كذلك تحفل شتى العلوم الطبيعية والاجتماعية، بنظرياتٍ متصارعة أحياناً، تحاول فرض وجودها الأكاديمي، عبر ترويج مصطلحاتها في تفسير الظاهرة التي تدرسها، فمصطلح “فائض القيمة” الماركسي، لن تجد له أثراً في علم الاقتصاد الغربي على سبيل المثال، لأنه يدلِّل على وجود استغلال، وهذا مرفوض غربياً، ومصطلح “نظرية التبعية” لن تجد له أثراً، إلا في أقسام علم السياسة ربما، أي ليس في أقسام علم الاقتصاد، عند دراسة مسألة التنمية في النظريات الغربية، ومصطلح “النشوء والارتقاء”، الذي استُل من نظرية لـ”داروين” بالاسم ذاته، يسود في علم الأحياء، لكنه يثير خلافات سياسية ضارية مع أنصار اليمين المسيحي في الغرب، الذين يعتبرونه نوعاً من “الكفر”، وبالتالي يحاولون منع تدريس تلك النظرية في المناهج!.
لكنْ، حتى لو وجِدَت نظريةٌ أو مدرسة فكرية لا يتفق معها المرء، فلا بدَّ من اسمٍ ما لها، لإتاحة نقدها ودحضها على الأقل، كما أن تسمية الأشياء والبشر والدول والكواكب والظواهر وكل شيء باسمٍ خاص به، هو مقدمة ضرورية للتعرف على العالم، ولفصلِ الظاهرة موضع الدراسة عن غيرها معرفياً.
إذاً، لا بد من تأطير الواقع والفكر والعلوم والنظريات بمصطلحات ملائمة لها، وتعبير اصطلاح بحد ذاته يعني فعلياً “ما اصطُلح أو اتُفق على تسميته هكذا” من قبل أصحاب الشأن أو الاختصاص، فبدلاً من العودة إلى ظاهرة أو قانون أو نظرية أو مفهوم ما، وشرحه بالتفصيل كلّما احتجنا للعودة إليه، يحلّ المصطلح محلّ ما اصطُلح عليه لتسهيل الإشارة إليه، واستخدامه في الشرح والتحليل والنقد والاستنتاج والاستدلال.
ما يهمنا، أن الأساس بالمصطلحات، أن تكون محايدة وعلمية، فلو قلنا “الضغط الجوي” أو “رقم قياسي” أو “تفاعل كيميائي” مثلاً، فإن ذلك قلَّما يثير مشاعرَ خاصةً سلبية أو إيجابية أو تحيّزاً، إلا بالنسبة لعالِمٍ أو طالبٍ في مختبرٍ أو خلف حاسوب، ربما يعمل على تجربة علمية أو يشتغل بمسألة إحصائية ما، أو عند تناول نظرية علمية خلافية، والعبرة في التطور العلمي “توحيد المصطلح” بين أهل الاختصاص، بمعنى أن يكون مُجمعاً عليه، وأن لا تسمي كل طائفة من العلماءِ والكتَّاب، الظاهرةَ أو المفهومَ أو المدرسةَ الفكريةَ ذاتَها، بأسماءٍ أو مصطلحات مختلفة، ومن هنا تأتي أهمية قيام المجامع اللغوية في البلدان العربية، بتأليف معاجم توحّد ترجمة المصطلح العلمي والتقني المترجم من لغات أجنبية، والطموح أن يكون إنتاج المصطلح العلمي والفكري عربياً أصلاً، لأن توحيد المصطلح يسهِّل البحث العلمي والتفاعل الأكاديمي.
لكن، لو ذهبنا باتِّجاه مصطلحات مثل “الاستشراق” أو “الإمبريالية” أو “جماعة ضغط” (في النظام السياسي الأميركي) في العلوم والفكر الاجتماعي والسياسي، فإن حيادية المصطلح ذاتها تصبح مطروحة على بساط البحث، وقد تصبح موضع خلاف وشقاق، وبالتالي يصبح توحيد المصطلح مشكلة، فماذا لو تسلَّل مصطلح يظهر كأنه “محايد” في السياسة أو الإعلام، لوصف شيءٍ أو ظاهرة بطريقة تناقض ما هو عليه فعلاً لخدمة مصلحة جهة ما؟.
ذلك هو جوهر المسألة هنا، ومع أن العلوم الطبيعية تشهد اصطراعَ نظرياتٍ متضاربةٍ لكلٍ منها مصطلحاتُها أيضاً، فإن نسبة الشحنة السلبية أو الإيجابية الملتصقة بأي مصطلح، تزداد كلما ذهبنا من العلوم الطبيعية إلى الاجتماعية، ومن العلوم الاجتماعية باتِّجاه الفكر عموماً والفكر السياسي خصوصاً، وتشهد ساحة الإعلام والشأن السياسي الراهن، أشدّ تزوير وأقوى شدٍّ وجذبٍ في حيز المصطلحات، ومن يتمكنْ من فرضِ مصطلحاته، وتقصّي مصطلحات خصومه، وتصنيفهم بمصطلحاتٍ ذات شحنات سلبية، وتصنيف ذاته وحلفائه ومواقفه وسلوكه بمصطلحاتٍ ذات شحنة إيجابية، يسيطرْ على الحوار العام، ويجد سنداً لأجندته أو برنامجه في العقول والقلوب، حتى وإن كانت مصالحه مناقضة لمصالح من اخترق عقولهم وأفئدتهم بمصطلحاتٍ غير دقيقةً أو أمينةً، في وصف الظواهر التي تسعى لتأطيرها، وهو شكلٌ آخر من الهجمات استخدم منذ القدم، وبهذا المعنى قيل أن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ (ومصطلحاته)، أما في عصر اقتصاد المعرفة والقنوات الفضائية والفضاء الافتراضي، فقد بات تزوير المصطلح وتحريفه، معلماً رئيسياً من معالم الصراعات السياسية، أكثر من أي مرحلة سابقة في التاريخ.
المصطلحات إذاً، بصفتها ما أُجمِع أو اتُّفِق عليه لتسمية شيءٍ ما، ضرورة لا غنى عنها لدراسة العالم وفهمه، ولكنها قد تصبح في السياسة والإعلام بالذات، مدخلاً لحرفِ زاوية نظر الرأي العام، أو “الشارع”، أو الناس عموماً، باتِّجاهٍ متحيِّز لمصلحة من يملك القدرة والإمكانيات على الترويج لمصطلحاته، وإقصاء مصطلحات غيره، ومن يملك مثل هذه القدرة هو من يسيطر فعلياً على وسائل الإعلام، ووسائل إنتاج الثقافة والعلوم، مثل الجامعات الكبرى ومراكز الأبحاث ودور النشر العالمية وغيرها، وهذه الجهة عالمياً هي احتكارات وسائل الإعلام العالمية مثل شركة Alphabet التي تملك محرك بحث “غوغل” وموقع “يوتيوب”، والتي كانت أكبر شركة إعلامية في العالم حتى شهر 11 عام 2019. أيضاً، مثل شركة “والت ديزني”، وشركة “فيسبوك”، و شركة “ورنر” الأميركية (التي تسيطر عليها شركة الاتصالات الأميركية AT&T منذ عام 2018)، وعموماً فإن أكبر عشر شركات إعلامية في العالم، ثمانٍ منها أميركية حتى اليوم، وواحدة ألمانية وأخرى صينية. أما عربياً، فإن رأس المال الخليجي طبعاً هو الذي يسيطر على وسائل الإعلام والثقافة العربية، قناتا “الجزيرة” و”العربية” أنموذجاً، ومن البديهي أن محرك بحث “غوغل” يتحكم بنوعية نتائج البحث التي تظهر على الشاشة، أو لا تظهر، أو تظهر بمراتب متدنية، وهذا يتضمن، فيما يتضمنه، الترويج لأسماء ومصطلحات دون غيرها بالضرورة، كذلك من المعروف أن “فيسبوك” يعاقب المحتوى المقاوِم ويتحيز للمحتوى الصهيوني، ويستخدم في ذلك خوارزميات تتقصَّى تعابير ومصطلحاتٍ وأسماء معينة على الصفحات دون غيرها..
المصطلحات سياسياً في السياق العربي:
ليست المصطلحات السياسية المتداولة في الإعلام السائد عربياً ودولياً شيئاً محايداً أو أكاديمياً، فهي تتضمن تحيزاً مسبقاً غيرَ بادٍ للعين المجرَّدة، وهي تؤسس لقوانين “اللعبة” وتحاول إلزام من يتناولون قضية ما بوجهة نظر قوى الهيمنة الإعلامية والثقافية التي تُروج لمصطلحات تضعُ من يقف في طريقها في موقفٍ ضعيفٍ معنوياً وسياسياً، لذلكَ كتبتُ في مستهل كراس “المعركة على جبهة المصطلحات في الصراع العربي-الصهيوني” (2009):
“لعلَّ أحد أهم الأسلحة التي تمتلكها القوى المهيمنة في العلاقات الدولية، أو داخل المجتمعات، أدواتها الثقافية والإعلامية التي تمكنها من صناعة المصطلحات وصياغة التعاريف، فالمصطلحات والتعاريف ليست “مجردَ كلامٍ” كما قد يظنّ البعض، بل نقاط مرجعية تسهم بتحديد قوانين اللعبة السياسية، وقوالبُ يُصَبُ داخلها الرأي العام، وهي على المدى البعيد، إذا تُركت تعمل من دون خطابٍ بديل، ذاتُ تأثيرٍ تراكميٍ يخترق الوعي الجمعي العربي ويفجره من الداخل، وينشئ قطاعاتٍ شعبية وثقافية عربية تفقِد الهوية والانتماء، وتتحول إلى موالاة للصهيونية من خلال منظومة من القيم والمفاهيم التي تشكِّل ما يُعرف باسم الوعي الزائف، أي الوعي الذي يؤسس لطريقة في النظر إلى الواقع، تتماشى مع الاحتلال والقهر الذي فُرض على أمتنا لتبرره وتصبح عقبةً في طريق التخلص منه”.
على سبيل المثال، قد يبدو تعبير “العمل من أجل تحقيق الأمن والاستقرار” شيئاً إيجابياً ومرغوباً، فمن هو العاقل السوي الذي يرفض الأمن والاستقرار؟!. لكن، عندما يُطلَق مثل هذا التعبير في سياق الصراع العربي-الصهيوني، فإن معناه يصبح فعلياً: “الحفاظ على أمن واستقرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان”، فلو طُرح السؤال على حقيقته: هل توافق على الاحتلال؟ فإن الإجابة سوف تختلف طبعاً مقارنةً بسؤال: هل توافق على الأمن والاستقرار بالمنطقة؟ ولذلك فإن السؤال الثاني يصبح غلافاً للسؤال الأول، الفعلي، الذي يتبعه منطقياً، أنَّ من يرفض الاحتلال الصهيوني يصبح “متطرفاً” أو حتى “إرهابياً” لأنه يهزُّ “الأمن والاستقرار”، بما أنه يرفض أو يقاوم الاحتلال.
العكس صحيح تماماً بالنسبة لسورية، فلو قلنا مثلاً: “ثورة من أجل الحرية، الديموقراطية، والإصلاح”، فإن موقف أغلب الناس، في سورية والوطن العربي والعالم، سوف يختلف عما لو قلنا: “فتنة ومجازر وإرهاب مدعوم وممول من الخارج”، فإذا ألبسنا القول الثاني لبوس الأول، كما فعلت عشرات القنوات الفضائية، ومئات المواقع على الشبكة العنكبوتية، والغرف السوداء التي تتغلغل في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الثائر في فلسطين يصبح “إرهابياً”، والإرهابي في سورية يصبح “ثائراً”، وهذا هو ما جرى فعلياً، وما جعل أهم أبعاد الصراع في سورية، تدورُ ومنذ عام 2011 في فضاء المصطلحات.
*كاتب قومي عربي
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036