الثورة أون لاين – أحمد حمادة :
في العقود الثلاثة الأخيرة ظهر للعالم كله أن أميركا لم تعد تملك القدرة على مواجهة الشعوب التي تغزوها ، فلا هي قادرة على نشر ملايين الجنود في الأراضي الشاسعة التي تحتلها ، ولا هي قادرة على مواجهة المقاومين لسياساتها الإرهابية وجرائمها وغزوها واحتلالها ، ولذلك رأينا طياريها وهم يقصفون المدن والقرى ويقتلون الأبرياء في أكثر من دولة بصواريخهم ثم يفرون من سمائها ، ورأيناها وهي تستخدم أساليب جديدة في المعارك تعتمد على تجنيد العملاء والاستثمار بالأدوات تحت شعارات صاخبة وبراقة وجذابة ، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحرب على الإرهاب .
حروب أميركا التقليدية انتهى زمانها برأي خبرائها أنفسهم ، ولهذا رأيناها وهي تتبع أسلوباً جديداً في معاركها يختلف بشكل جذري عن الحروب التقليدية القديمة التي كانت تخوضها وتعتمد فيها على تقدم جنودها على الأرض ، وهذا الأسلوب الجديد يسير أحياناً بشكل متوازٍ مع قصف طائراتها وصواريخها ، ويسمى “بالجيل الرابع من الحروب” وهو الأسلوب الذي طبقته واشنطن في العراق وسورية واليمن وأفغانستان وليبيا والصومال والسودان ، والعديد من الدول المنكوبة بالسياسات الأميركية المتوحشة ، فما جوهره وماهيته ؟.
تدمير الدول من دون الحاجة للحروب العسكرية جوهر الجيل الجديد من حروب أميركا ضد الدول ، عبر إنهاك شعوب الأرض التي تغزوها ، وعبر ما أسموه “التآكل البطيء” والتحكم بتلك الشعوب واقتصادها وحكوماتها ودولها وحصارها ، وتهديد سيادتها وتقويضها عن طريق الاعتماد على العملاء والخونة من أبناء تلك الدول ، وعبر التحكم بإقليم خارج سيطرة الدولة تتحكم به مجموعات غير خاضعة للدولة ، ومن خلالها تستطيع واشنطن التحكم بالأمور فيها ، عبر خطوات بطيئة وبهدوء تام وبشكل مدروس .
فهؤلاء العملاء والأدوات هم من يمكّنون أميركا من بلوغ جميع أهدافها وغاياتها الاستعمارية من دون خوضها الحروب العسكرية ، وانظروا إلى اللوحة في الجزيرة السورية واعتماد القوات الأميركية المحتلة على مجموعات “قسد” الانفصالية و”داعش” المتطرفة لنتأكد من هذه الحقيقة ، وانظروا أيضاً إلى ركائزها “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” وأخواتها من التنظيمات الإرهابية في أفغانستان والعراق وسورية وغير مكان في العالم لندرك هذه الحقيقة .
ومثل هذا الكلام ليس من بنات أفكارنا ، ولا هو محاولة لشيطنة أميركا ، وليست رغبة منا لاتهامها بما ليس فيها ، بل هو حقيقة دامغة يقر بها أصحاب الشأن الأميركيون أنفسهم ، وهنا ليس أفضل من العودة إلى محاضرة ألقاها البروفسور “ماكس مانوارينج” خبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأمريكية عام 2018 في أحد مراكز البحوث في الكيان الإسرائيلي ، وحضرها كبار الضباط من حلف الأطلسي “الناتو” ومن جنرالات الإرهاب الصهاينة لندرك بدقة لغز ما يجري في منطقتنا وما يخطط لها ، فالشاهد من داخل أميركا والكيان المارق “إسرائيل” ، ومن فمهم تمت الاعترافات .
يقول “ماكس” في محاضرته تلك : “إن أسلوب الحروب التقليدية صار قديماً ، والجديد هو الجيل الرابع من الحروب ، وليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم ، أو تدمير قدرتها العسكرية ، بل الهدف هو الإنهاك – التآكل البطيء – لكن بثبات ، فهدفنا هو أرغام العدو على الرضوخ لإرادتنا ، والهدف زعزعة الاستقرار ، وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة ، وهنا نستطيع التحكم ، وهذه العملية تنفذ بخطوات بطيئة وهدوء وباستخدام مواطني دولة العدو ، وهنا سوف يستيقظ عدوك ميتا” .
هكذا حرفياً يفصّل “ماكس” جوهر حروب أميركا اليوم ، وهكذا حرفياً تم التطبيق العملي لها في سورية والعراق وليبيا وغيرها من الدول التي غزتها ودمرتها واشنطن ، ولهذا السبب قيل عن محاضرته تلك إنها أخطر محاضرة في التاريخ الحديث لأنها توضح كل ما جرى ويجري من حروب وصراعات وأزمات وفتن طائفية وعرقية ودينية في منطقتنا والعالم .
وقد تساءل العديد من المحللين والخبراء السؤال التالي ، وبحثوا عن مغزاه : لماذا لا تريد واشنطن الانهيار السريع لتلك الدول بدل التآكل الهادئ والبطيء ؟ ويجيبون بأن هذا هو الجزء الأخضر في الأمر ، والسؤال الأخطر في الموضوع ، لماذا ؟ لأن التآكل البطيء برأي منظري الخراب والدمار والقتل يعني خراب متدرج للمدن ، وتحويل الناس إلى مجرد أدوات أو حتى “قطعان هائمة” كما قالوا حرفياً ، أدوات لا تفكر ، مغلوب على أمرها ، لا تدرك ما يجري ، ولأن التآكل يشل قدرة البلد على تلبية الحاجات الأساسية ، بل تحويل نقص هذه الحاجات إلى وجه آخر من وجوه الحرب ، وهو عمل مدروس ومنظم بدقة ، وهو تماماً ما يطبقه بايدن اليوم ومن قبله ترامب في حصار السوريين وتسليط إرهاب “قيصر” عليهم لحرمانهم من الغذاء والدواء والمال والطاقة كوجه آخر من الحرب القذرة المذكورة .
ولعل المعلومة المهمة التي على القارئ معرفتها أن ما يسمى البروفسور”ماكس مانوارينج” وخبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأمريكية ، صاحب نظرية “التآكل البطيء” ليس خبير الجيل الرابع لتلك الحرب فحسب ، بل هو ضابط في “السي آي إيه” ومن أصحاب الرؤوس الصهيونية الحامية في واشنطن ، ممن لا تهمهم الإنسانية ولا الشرائع الدولية ، بل كل ما يهمهم قتل الشعوب وسرقة ثرواتها .
ولهذا نراه يختم توصياته لضباط “بني صهيون وبني الناتو المتصهينين” بقوله : “في مثل هذا النوع من الحروب قد تشاهدون أطفالاً قتلى أو كبار السن ، فلا تنزعجوا ، علينا المضي مباشرة نحو الهدف ، لا تتركوا المشاعر أمام هذه المشاهد تحول دون تحقيق أهدافنا” !.
ولنعد إلى جرائم أميركا والناتو المروِّعة بحق السوريين والعراقيين وبقية العرب والآسيويين والأفارقة ، ونهب ثرواتهم ، واستخدام الانفصاليين الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، واستنزاف قدراتهم ، والتخطيط لتأجيج الإرهاب على أراضيهم ، واستمرار إدارة أزماتهم ، وعدم السماح بحلها ، لندرك كم عملت استخباراتهم على مبدأ “التآكل البطيء” لتدمير مقومات الدول ومؤسساتها ، ونسف قيم المجتمعات ومبادئها ، ولندرك بوضوح لغز الخراب الذي حل في منطقتنا ، فالمطلوب أميركياً هو تدميرها بالكامل ، وتسيّد الكيان الإسرائيلي عليها ، وإلحاقها بمنظومتها الاستعمارية الجشعة ، وتحويلها إلى مجرد أدوات استهلاكية تخدم إمبراطوريتها المتوحشة.