الثورة أون لاين – منال السماك:
أربعة عشر عاماً لا أكثر، فملامح وجهه لم تقارب مرحلة الشباب بعد، يبدو أنيقاً منعماً ومترفاً، كان يدخن سيجارته بنهم تارة وبترفع وعنجهية تارة أخرى، لتغرق براءة طفولته خلف ضباب دخانه الكثيف، تبددها موجات سعال مباغتة ربما لحداثة عهده بالتدخين، ثم مضى إلى سبيله بعد تبدل الشارة الضوئية، حيث كان يجلس بجانب سائق سيارة عمومية تحاذي سيارة أجرة أستقلها.
ليس الطفل الوحيد الذي استبدل لهوه وكتبه بسيجارة لعينة، بل غيره كثر نصادفهم هنا وهناك بعيداً عن أعين الأهل يمارسون التدخين بشراهة، ليحرقوا براءة طفولتهم ويدمروا صدورهم وأجسادهم الغضة.
لا تهمنا الأسماء بقدر ما يثير الهلع في نفوسنا أمام منظر يجمع المتناقضات. أطفال وقامات صغيرة وسيجارة قاتلة تتربع بتحد على شفاه طرية، ربما علينا أن ندق ناقوس الخطر، ونهرع إلى التحذير من جيل يبحث عن تعويض لشيء مفقود، أو ربما ترميم لنفس تائهة في زمن التحديات التي طرقت أبواب الصغار، ليصبحوا بين ليلة وضحاها رجالاً بقامات لم تصل حدود عالم الكبار بعد، و لكن المسؤوليات الجسام جعلتهم معيلين لأسرهم قبل الأوان لفقدان سند عائلي، أو لثقل تحديات مادية على كاهل أب فتلقى المسؤوليات على ظهور الصغار.
على باب محل تجاري لبيع الأحذية في منطقة الصناعة كان يجلس لؤي ” 12″ عاماً وينفث دخان سيجارته على الملأ لا يبالي بعين ناقدة ولا تأنيب عابر عاتب على طفولته المتمردة علناً، لم أجد نفسي إلا و انا أتحدث إليه بعتب، فسرعان ما انهال بالمبررات، تسلية تطرد شبح الملل خلال ساعات تواجده بالعمل ريثما يلتحق بأصدقائه للعب واللهو بكرة القدم، لا يأبه لرب العمل الذي لم يمنعه من التدخين فلا علاقة به على حد قوله، فهو بات رجلاً يعيل أسرته إلى جانب إخوته الصغار الذين تركوا المدرسة والتحقوا بسوق العمل كباعة طرق في منطقة الزاهرة، لأن الأب مريض ولا يقوى على العمل.
“عدي ” 15 عاماً يعمل في توصيل الطلبات لبقالية كائنة في منطقة سكني، طرق بابي يحمل المواد التي طلبتها من البقالية، بينما في يده الثانية سيجارة يسحب منها دخاناً بين الفينة والأخرى بنهم، برر تدخين السجائر بأنه مهموم وهي تريحه في التنفيس عن روحه المختنقة من الضغوط التي يحملها على عاتقه.
في زاوية من شارع فرعي في منطقة دمر اجتمع ثلاثة أطفال بملابس مدرسية، تتراوح أعمارهم بين 13 و 15 وفي يد كل منهم سيجارة، بمشهد مستفز ما جعلني اقترب منهم لمعرفة من أين يأتون بثمن السجائر وقد ارتفعت أسعارها حتى بات الكبار من المدخنين يفكرون في تركه لتوفير نفقاته، فقال أحدهم: نحن بعد دوام المدرسة نعمل باعة على “بسطة” في منطقة البرامكة، ومردود كل منا ثلاثة آلاف ليرة، فنساعد أهلنا بمصروف البيت ونشتري السجائر لنتسلى بتدخينها.
تدخين الأطفال لم يعد مشهداً نادراً، بل بات يتكرر أينما نظرنا في ورشات العمل حيث يعملون بعيداً عن أسوار المدارس كمتسربين، وفي المحال التجارية التي يشكلون فيها عمالة رخيصة في استغلال صارخ لطفولتهم بأعمال لا تتناسب وأجسادهم، كما باتت ظاهرة تدخين طلاب المدارس ملحوظة خاصة أثناء خروجهم من دوامهم.
عن أسباب ومخاطر هذه الظاهرة تقول الاختصاصية الاجتماعية دعاء الباشا.. إن ظاهرة تدخين الأطفال ليست جديدة حيث كانت تمارس خفية وخلسة، كنوع من التقليد للكبار في بيئة حاضنة يكثر فيها التدخين من أب و أم أو أقران، ولكن اللافت حالياً أنها تمارس بشكل علني من قبل بعض الأطفال والمراهقين، وهي تعكس حالة من التمرد على الضغوط التي تحمل بعضهم كماً لا بأس به، وخاصة الأطفال الذين يعيلون أسرهم ويعملون في وسط يشجع على التدخين، حيث دفعت الظروف المادية الصعبة بالكثير من الأسر للاستعانة بأطفال لتخفيف وطأة الغلاء، خاصة في ظل فقدان الأب المعيل أو مرضه.
و تلفت الاختصاصية الاجتماعية إلى مخاطر هذه الظاهرة على شريحة الأطفال حيث تزيدهم هشاشة، وتفاقم آثار الأزمة التي حلت بهم، لتجعل منهم مدمنين وتهدد جيلاً بعمر صغير، لذلك لا بد من وجود رادع قانوني يمنع بيع السجائر للأطفال والمراهقين، وكذلك العمل على التواصل مع هذه الشريحة العمرية وتنبيههم وتوعيتهم لمخاطر التدخين على صحتهم ونموهم، وذلك بالحوار وعرض حالات حقيقية تضررت من التدخين لتكون عبرة لهم.