الثورة أون لاين- ديب علي حسن:
من البديهي القول إن العلوم الإنسانية بمختلف فروعها لا يحكمها مقياس منطقي كما في العلوم التطبيقية.. ولكن هذا لم يمنعها من العمل على استحداث مقاييس تقريبية من خلال التوافق على بنود وعناصر لابد من توافرها مثلا في العمل الروائي أو الشعري أو التشكيلي وما في قائمة الابداع.
ومن تجربة شخصية عندما كنت مدرسا لمادة اللغة العربية..أثناء تصحيح أوراق الشهادة الاعدادية ..حين كنت ادقق ورقة طالب جمعا ومراجعة تبين أن الطالب نال ٤٤ من ٦٠ لا يوجد اي خطأ لديه في كل ما راجعته، ألقيت نظرة على موضوع التعبير وعليه ١٦ درجة اظن ..
وضع المصحح درجة الصفر وكتب (خروج) عن الموضوع ..
كان سؤال الموضوع أن تتحدث عن تجربتك بالتبرع بالدم لمحتاج ..
اما الطالبة كما أعلنت عن حالها فقد كتبت انا لا اعرف كيف يتبرعون بالدم لاني لم ازر المدينة ابدا ..لكني سأروي لكم كيف تبرع ابي بدمه لكل سورية… ثم روت كيف ألقى أبوها جسده على قنبلة رماها ارهابي في الثمانينات مستهدفا… وتابعت قائلة:لقد تناثر جسد ابي فوق رفاقه فحماهم من الموت وكان دمه في كل بيت سوري…
طالبة بهذا الابداع تعطى درجة الصفر لاستعصاء فهم المدرس ..بمراجعة لورقتها ليس لديها اي خطأ ابدا ..بعد مناقشة ضمن اللجنة كان الإجماع على انها مبدعة وتستحق العلامة التامة..وفعلا نالتها تماما.
ترى هل يمكن الإجماع في قياس الرسالة الإعلامية على مقياس محدد..وقبل ذلك ..هل الإعلام من العلوم الإنسانية التي تجد صعوبة في قياس أدائها..بل من يقيسه ويضع المعايير ..مؤدي الخدمة ام المتلقي.. في الإعلام السوري مثلا ..من يجب أن يضع المقياس ..المسؤول الإعلامي أم رئيس تحرير ..ام المتلقي ..ام المسؤولون ..؟ أليس لكل واحد من هؤلاء مقياسه ..مقياس الكثيرين من المسؤولين الا تكون قادرا على تقديم رسالة إعلامية ما تثير قلقهم ..ومقياس آخرين أن تكون طوع البنان …ومقياس المتلقي لا يتفق بأي شكل من الأشكال مع مقياس الجهات التنفيذية..
ثمة من يرى أن الانتشار مقياس ..قد يكون كذلك ..ولكن هل الانتشار دليل على محتوى جيد ..تريدون مقياس الإثارة ام التنوير ام ماذا ..؟
كنا طرحنا السؤال ..هل الاعلام علم انساني قابل للقياس ؟ طبعا نعني رسالته ..
الإعلام اليوم هو العلوم كلها ..إنسانية من لغة وتربية وفكر وفلسفة وعلم نفس وهو تقني تطبيقي طبي
فيزيولوجي ..في الرسالة الإعلامية ستجد ذلك كله ..يعني انك قادر على القياس وبالوقت نفسه لست قادرا على فعل ذلك.
الحصيلة بل الحصاد قد يكون سريعا ولكنه زائف كما في مواقع التواصل الاجتماعي وقد يكون زرعه طويلا بعيد الحصاد لكنه مثمر يضرب جذوره في الأرض..
وثمة سؤال آخر..هل يمكن أن نتخذ اعلاما ما مقياسا دون المقارنة بين أوضاع الاعلاميين والمجتمعين ..بين الأدوات والوسائل والأهداف والمتلقين؟..
اذا ما أردت أن تحكم على اعلام ما حكم قيمة عليك اولا ان تاخذ الظروف والمعطيات كلها وان تجري مسحا موسعا يكاد يشمل 80 بالمئة من متابعيه.
وبالوقت نفسه اذا أعجبت بإعلام ما وأردت أن تنافسه وهذا ضروري يجب أن تقدم نماذج منه ..وتجري المقارنة ..لعل من تحفزه يصل إلى بعض المثال أو يتجاوزه طبعا مع مراعاة الظروف والمعطيات والفوارق والأهداف.
هذا كله لا يعني أن نركن إلى الدعة والهدوء والرضى عن النفس والأداء الذي يجب أن يكون، لكن شرط ألا يتحول إلى سبات ونوم في وهم النجاح ..
نحن في الإعلام السوري أمام معضلة تكاد تكون مستعصية..
المسؤول الإعلامي غير راض عنك ..انت غير راض عنه ..المتلقي غير راض لا عنك ولا عن المسؤول عنك …الإدارات التنفيذية نعني بها المؤسسات الحكومية ..كثيرها…يريدك مجرد ناقل اخبار ومصفق ..في هذه المراوحة ثمة حراك يجب أن يصل إلى تقاطعات وتشابكات.. فالأمر ليس معجزة وتحت سقف الوطن والانتماء والوفاء له كله مطروح للنقاش من أجل خطوات للأمام وليس التمترس وراء موقف ما ..لابد من العمل بخطوات واثقة لا تستبعد اي مقياس.