مَنْ منا لم يعرف (المُسحِّر)، أو (المسحراتي) وهو يصدح بصوته قبل صوت طبله لكي يوقظ النائمين وقت السحور، لكن من الأجيال الصغيرة مَنْ لم يتعرف إليه، ولم يسمع عباراته التي كانت تتردد مع سكون الليل على إيقاع الطبل الصغير بين يديه لينبه الناس إلى وقت سحورهم قبل أذان فجر يوم جديد من أيام رمضان.. وكيف سيتعرفون إليه بينما المقاهي، والمطاعم الآن لا تطفئ أضواءها إلا مع بزوغ الفجر، وضجيج الحركة لا يهدأ حتى ينقضي الليل، و(المُسحِّر) لم يعد يجد له مكاناً في شوارع مدن لم تعد هادئة، وأهلها نيام كما كان عليه الحال في عقود سبقت؟.
هؤلاء الصغار الآن ليس لهم أن يعرفوا عن ذلك الرجل زائر الليل إلا من خلال البرامج التلفزيونية، والإذاعية، إذا ما التفتت إلى هذا التراث المخبوء في الصدور.. في حين أن صغاراً آخرين ممن أصبحوا من جيل الآباء، أو أنهم أوشكوا على ذلك كانت تخفق قلوبهم فرحاً عندما يسمعون صوت (المُسحِّر) وهو يناديهم في الأزقة بأسمائهم فرداً فرداً، فهو غالباً ليس بغريب عن الحي، أو أنه من حي مجاور، وحتى لو كان غير ذلك فهو يعقد في النهار صلات التعارف مع أبناء الأحياء التي يزورها ليلاً ليتعرف إلى أهلها، ومنهم أولئك الصغار الذين يهبّون من فراشهم مبتهجين عندما يسمعونه يناديهم من تحت شرفات بيوتهم لكي يستيقظوا، ونادراً ما استسلم بعضهم للنوم بعد سماع النداء، وقد يحتفظ (المُسحِّر) بتلك الأسماء مدونة في دفتر صغير يحتفظ به من عام إلى عام قادم، أو لأعوام يكبر فيها الصغير، أو قد يغيب عنها الكبير.. ليتحول ذلك الدفتر إلى ذاكرة للمكان بقاطنيه.
مهنة لا تأتي إلا مع بهجة رمضان بخصوصية أيامه، ولياليه، ولا يزاولها محترفوها سوى لشهر واحد فقط من كل عام، وهم يتوارثونها أباً عن جد حتى لا تنقرض، وتزول، ولطالما كانت من التقاليد التراثية للمدن العربية، والتي لا تغيب عنها طوال أيام الشهر الكريم في المشرق، وفي المغرب.
ويوم العيد لا يتردد (المُسحِّر) من أن يقرع أبواب البيوت، وهو يرتدي أجمل الثياب التقليدية ليبارك لمن صاموا شهرهم إيماناً، واحتساباً، وليهنئهم، ويحتفل معهم بعيدهم عيد الفطر السعيد، وهم بدورهم لا يترددون في أن يقدموا له بعض المال تعبيراً عن شكرهم، وامتنانهم له بعد أن أدى مهمته نحوهم طوال ثلاثين يوماً.
تقاليد من تراث شعوب المنطقة لم يرد لها أهلها أن تغيب عنهم، أو أن تندثر من فضاءات مدنهم بالرغم من التطور التقني الذي غزا الدنيا، ومن الوسائل المعاصرة الحاضرة وبقوة لتوقظ النائمين، أو لتطير النوم من العيون الساهرة إلى ما شاءت لها الشاشات التي تبرق بالمسلسلات، والبرامج الرمضانية، أن تبقى مفتوحة لتتابع.. فإذا بالمسحراتي يعود إلى الشوارع الصغيرة من بعض الأحياء، والأزقة الضيقة من المدن التي أصبحت متسعة، إحياءً لهذا التراث، وحتى لا يصمت صوته ولو في أضيق نطاق له، لكنه هذه المرة يأتي بثوب جديد فرضته عليه المدن الحديثة بعمرانها الممتد، فهو لا يرتدي ثياب التقاليد بل يتجول بمظهر عصري، وربما بقصة شعر عصرية أيضاً، ولا يردد فقط تلك العبارات المتوارثة بل إنه يضيف إليها مما تجود بها قريحته من واقع الحال، وتبدل أمزجة الناس بين مَنْ يرتبط بتراثه، ومَنْ ينسجم مع عصره حتى يكاد يفقد ماضيه، وثروة ذكرياته مع ما تبهره به أضواء عصره، ناسياً أو متناسياً ضوء ذلك القنديل الخافت الذي كان يرافق زائر الليل في الطرقات المعتمة.
يقولون إن رمضان لم يعد كما كان إلا أنه يصرُّ على استحضار تقاليده معه حتى لا يفقد بهجته في النفوس، والتي تميزه عن باقي الشهور، مهما تكدرت الأجواء، ومهما جاءت التكنولوجيا بالأدواء.
(إضاءات) ـ لينــــــــا كيــــــــلاني