خبر مؤلم وصادم. عند هذين الوصفيين التقت عشرات كلمات رثاء الفنانة التشكيلية سوسن جلال، كما اجتمعت في الحديث عن عذوبتها وحضورها الإنساني الدافئ. فالراحلة الغالية تنتمي إلى هذا النوع من الأشخاص الذين، لصفاء نفوسهم، يتركون الانطباع ذاته عند الجميع مهما تباينوا واختلفوا.
في يوم لا نعلمه من عام 1911 ولد محمود جلال في ليبيا، ليقف بعد ستين سنة أمام وزير الثقافة في دمشق ليقلده الذي قلده نيابة عن رئيس الحكومة السورية وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى. وبين هذين التاريخين حياة حافلة جعلت من محمود جلال واحداً من أهم الأسماء في الحياة التشكيلية السورية، لا لأهمية نتاجه الإبداعي فحسب، وإنما أيضاً لمساهمته البالغة القيمة في انطلاقة وترسيخ الحركة التشكيلية بحكم الدور الذي أداه في المواقع العلمية العديدة التي شغلها، ومساهمته الفاعلة في إيفاد الطلاب لدراسة الفن في أوروبا، وتأسيس كلية الفنون الجميلة بدمشق.
صُنفت تجربة محمود جلال ضمن الكلاسيكية الحديثة، وهو توصيف ينسجم مع تصريحاته عن تجربته، وينسجم أيضاً مع التزام معلمه (سيفيرو) بهذه المدرسة. ومن المؤكد أن مرحلة الدراسة قد حددت مسار تجربته، ولكن من الإنصاف أيضاً القول :إن دراسته الأكاديمية كانت تنسجم مع مفهومه لفن التصوير حيث آمن دوماً أن الكلاسيكية خطوة لا بدّ لكلّ رسام أن يبدأ بها، وهو لذلك كان فيما بعد أحد الذين يعود إليهم الفضل في تكريس الإيفاد الخارجي لدراسة الفنون دراسة أكاديمية. لكن هذا لم يكن ليعني أنه وقف في وجه التجديد، بل نراه يعلن صراحة أن التجديد خطوة ضرورية، ونلحظ في المراحل التالية مدى تفرد وتميز أسلوبه، وقدرته على استثمار القواعد الأكاديمية لصياغة تجربته الخاصة التي استطاعت بنجاح كبير أن تقدم أعمالاً فنية ذات خصوصية محلية واضحة، في التصوير وفي النحت.
محمود جلال، الذي تلقى دعماً كبيراً من أبيه، وأشاع الجو الفني في مجتمع واسع، كان طبيعياً أن يشيع هذا الفن في بيته، فتابع ابنه خالد مساره في النحت، مستلهماً النحت السوري القديم، ومشت ابنته سوسن على دربه في التصوير متنقلة من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية التعبيرية، إلى عتبات الانطباعية والتجريد، آخذة عن أبيها: الفهم الدقيق لدور الإضاءة والتعامل الواثق مع الألوان الصريحة، والعناية الفائقة بالرسم باعتباره هيكل اللوحة. وقد تبدت براعتها في سلسلة من الوجهيات (بورتريه) رسمتها بالفحم، و بالألوان.
مرت السيرة الإبداعية لسوسن جلال بعدة مراحل وتجارب بدت وكأنها سعيٌ وراء خصوصية فنية أدركتها مع مشاهد الزهور وقد تجلت فيها مجمل خلاصة المراحل السابقة لها، حيث تتنقل فِرشاتها بشفافية وحساسية عاليتين بين تيجان الأزهار وتفرعات أوراقها و(أغصانها)، وبين الخلفية المتناغمة معها في رؤية صنعتها الذاكرة والخيال، لا الواقع الوثائقي. وهنا يكمن السر الأول في تلك الروح التي تسكن لوحاتها، التي هي في واقع الحقيقة جزء من روحها الناثرة لعبق المحبة والجمال، رغم كلّ الآلام التي مرّت بحياتها منذ الرحيل المبكر لشقيقها خالد أثناء دراسته في روما، واضطرارها لإخفاء الخبر عن أبيها، الذي لم يكن ليتحمل ذلك في عمره المتقدم وحالته الصحية الصعبة، فلجأت لرسائل تكتبها له باسم شقيقها حتى حلول اللحظة المؤلمة التالية، لحظة رحيل الأب. لتنذر نفسها بعدها للعناية بأمها المريضة لآخر يوم في حياتها، شاغلة ما تبقى من وقتها برسم الزهور التي تبهج أرواح الآخرين فيما روحها تتلقى جرحاً جديداً برحيل شقيقتها الأقرب إليها، لم ينجح هو أيضاً في إخفاء ابتسامة الود والأمل عن وجهها.
كما لن ينجح رحيلها بتغييب عبق حضورها الرهيف، ورائحة أزهارها الفواحة.
إضاءات- سعد القاسم