لكل شعب من الشعوب تقاليده المخبوءة بين صفحات تراثه، ومنها ما يُصنَّف تحت قائمة التراث العالمي الثقافي غير المادي لدى منظمة (اليونسكو) لما له من أهمية في حفظ الهوية، والخصوصية التي ينتمي إليها.. ونحن جميعاً نتوارث جيلاً تلو جيل أجمل ما في تراثنا من عادات، وتقاليد، وأكثرها حضوراً يكون في شهر رمضان، هذا الشهر الكريم الذي يدعو الناس إلى التوادد، والتآلف، والتراحم فيما بينهم سواء أكانوا أقرباء، أم غرباء.
وللشهر الفضيل ما يميزه من اجتماع الأهل والأصحاب حول مائدة واحدة هي مائدة الإفطار، لتكون المشاركة، ولتسري الألفة بين النفوس فتزول شوائب الخلاف، أو الاختلاف إن وجدت.. ولكن ماذا عمّنْ فقدوا أحباءهم، أو أقرباءهم، وأصدقاءهم في ظل ظروف استثنائية غير عادية من حروب ظالمة، وأمراض فتاكة باتت تنتشر على شكل وباء لا يرحم؟.. هي الوحدة إذاً التي اقتحمت كثيراً من بيوت كانت مطمئنة لأيامها، هادئة في منامها، لا تحسب حساباً لغدر الزمن.. فإذا بمشاركة أوقات شهر الخير مع الجيران، والأصدقاء، تعود بحرارة في هذه الأوقات لتكسر طوق العزلة، والفراغ الذي سببه الفقد، أو الغياب.
ولم لا وقد اعتاد الناس في هذا الشهر أن يجددوا علاقاتهم الجيدة مع جيرانهم، ومَنْ يعرفونهم، إذ يتبادلون فيما بينهم أطباق الطعام مهما كانت بسيطة في محتواها، إلا أنها ليست ببسيطة في تعبيرها، ويتهادون بالتالي في بعض البلدان فوانيس رمضان التي تضيئ في القلوب قبل المكان.. لعل ذلك يعيد شيئاً من الذي كان، من روح (لمة العيلة)، وطقوسها، التي كانت تشع بنبضها الدافئ من تلك المنازل.. وحتى أولئك الذين نزحوا عن بيوتهم ليسكنوا عند أقاربهم، أو مَنْ يستضيفهم لديه، أو مَنْ يتشاركون معه في السكن، فقد وجدوا في أيام الرحمة تراحماً يخفف من ثِقل ما يعانونه، كما يجدون الألفة التي تهزم ولو جزءاً من أحزانهم المتراكمة، وإحساسهم بالغربة الدخيلة على أفق حياتهم عندما يشاركهم الآخرون مشاعرهم.. فالناس ما يزالون للناس كما يقال بالتعبير العامي.
في هذا الشهر تتقارب البيوت حتى لتكاد تسمعها تهمس لبعضها بعضاً بعبارات المودة بين أبناء الحي الواحد، وربما أيضاً مع الأحياء المجاورة، وهي تحنو على قاطنيها، وتدعوهم في أيام مباركات إلى مزيد من التآلف، والتآخي الذي ما زال يرف في القلوب لأبناء الوطن الواحد.
أما التكنولوجيا الحديثة فقد فعلت فعلها في هذه الأوقات في كسر المسافات، وتقريب كل مشتاق لمن يشتاق له، فلم تحرم أحداً من حرارة اللقاء، ولو كان افتراضياً عندما تلتمع شاشات الأجهزة الذكية بصورة الوجوه المحببة إلى النفوس ليتشارك الجميع في مائدة إفطار ولو هي وهمية في مكانها، إلا أنها حقيقية في المشاعر التي تجمع بين أفرادها.. ليبدأ الاجتماع مع صوت الأذان بعد أن غاب مدفع رمضان، وقد كان تقليداً جميلاً يُشعر بمهابة لحظة الإفطار كمكافأة لمن صام يومه على أتم وجه.
والأمسيات الرمضانية هي الأخرى لا تخلو من نكهة خاصة إذ تمتد أوقاتها حتى موعد السحور، ليبقى لهذه الليالي، وخاصة في العشر الأخير وفي الهزيع الأخير منها، ألقها الذي تختزنه حقيبة الذكريات.. فما بالنا بما هو صعب من هذه الأيام في ظل اضطراب عالمي بين حظر، وحجر، وفقدٍ للأرواح، وللوظائف، والأمان بعد أن اكتسح الوباء كل فضاءات البلدان.
هذه التقاليد التي يحافظ أهلها عليها هي في الوقت ذاته فرصة ثمينة لمَنْ لم يعاصروها في أوج زهوها في أوطانهم الأم لأن يتعرفوا إليها من جديد سواء أكانوا في زيارة رمضانية لبلدانهم، أم من خلال شاشة افتراضية تحقق الغاية ذاتها تقريباً، وهي فرصة أيضاً لتمتين أواصر الارتباط سواء مع مَنْ هم من الأقرباء، أو مَنْ هم في الجوار، أو مَنْ تفصل بينهم مسافات من أميال الغربة والبعاد، مادامت التقنيات الحديثة تسعف، ولا تتأخر.
والتاريخ يشهد منذ الأيام الأولى لبزوغ هذه التقاليد على أنها إرث جميل لأبنائها لا يفرِّطون به مهما اشتدت بهم المِحن، وطرقت أبوابهم نوائب الزمن.
إضاءات ـ لينــــــا كيـــــــلاني