الثورة أون لاين- علي الأحمد:
هناك مقولة شائعة مفادها، أن الموسيقى كعلم وفن، بلغت الحد الأكمل من التطور، ولم يتبق إلا الحفاظ على منجزها الإبداعي، من علوم ونظريات وطرق كتابة وممارسة وغيرها من تقاليد استقرت في الذاكرة الجمعية، عبر التاريخ، منذ أن خطت أولى خطواتها الملموسة في عالم الإنسان، نحو الجمال والإبداع.
لكن، هل يمكن إنكار، أو التعامي عن مسار التحولات الغريبة والغرائبية ، التي طرأت على بنية وبناء هذا الفن خاصة في العصر الحديث، الذي كسر موسيقيوه ، كل القيود والأصول الراسخة، نحو فضاءات جديدة من التعبير والتصوير الوجداني، عبر طرق مسارات مغايرة للقديم ونسف أركانه وبنيانه مرة واحدة، حيث يمتزج الواقعي مع الخيالي الافتراضي التي تولدّه تقانات وتكنولوجيا متقدمة وبرامج ذكية مرعبة، أتاحت الفرصة للموسيقي المعاصر من تجريب واقتراح أصوات خيالية لم تكن تخطر على بال أحد، بما غيّر من وجهة هذا الفن، بعيداً عن الإبهار والصنعة والحرفية، التي لازمته فترات طويلة. صحيح أن هذه الموسيقى الجديدة لاقيمة لها على المستوى الجمالي، ولامكان لها في العالم الروحي للإنسان المعاصر، – إلا بحدود ضيقة – كما يرى الكثير من المفكرين والعلماء، إلا أن هذا المسار الجديد المتحول، يحمل بين طياته بذوراً حداثية وإن كانت غير مستقرة على نهج واضح ، تحاول أن تخلخل الثوابت المستقرة وتهزها بعمق بسبب جموديتها وسكونيتها القاتلة، وكأن الزمن لايتحرك الى الأمام، نتيجة ترسبات الماضي ومقولاته الذوقية التي لم يعد لها متسع في الحياة المعاصرة، التي انقلبت فيها المعايير رأساً على عقب، بسبب الصراعات الفكرية والايديولوجية في العالم، بماتمخض عنه من مذاهب وتيارات موسيقية تنوعت مابين الحسية والابداعية بدءاً كمايقول الباحث الدكتور “محمود قطاط” من الموسيقى العفوية والطبيعية والالكترونية لتصل الى موسيقى الحاسوب وموسيقى الأحياء “بيو موسيقى” أو حركة تدمير الموسيقى “انتي موسيقى” وغيرها من اتجاهات لحظتها العلوم الانسانية والاجتماعية،، وبالتالي تحميل هذا الفن رسائل مؤدلجة أكثر ممايحتمل.
وقد يبدو مستقبل هذا الفن عرضة أكثر الى فقدان ذاكرته وضياع ميراثه الروحي الناجز، الذي لايقاربه الموسيقي المعاصر إلا في حدود ضئيلة، لأنه يتعارض مع رؤيته وفلسفته الجديدة في تناول الأفكار والمواضيع التي تعكس ايقاع العصر المتفجر على أكثر من صعيد، ولهذا بات ينُظر الى نتاجات هذا الفن في ألفيته الثالثة هذه، على أنها أكثر غرائبية وعشوائية ، لأنها ابتعدت بشكل ملموس عن مسارات وطرق الكتابة والممارسة التي سادت قرون طويلة. وأضحت التجربة الموسيقية المعاصرة رهينة القفز عن كل التراث والتقاليد الماضية العتيدة. لكن بالمقابل هناك ثمة فرسان جدد، يكتبون موسيقى جديدة للإنسان، تقترب الى حدود معقولة من الجمال والإبداع بالرغم من تعارضها الوظيفي مع هذه التقاليد القديمة، فهي باتت تشكل نمطاً جديدا في الكتابة والتأليف الموسيقي المعاصر الذي يذهب الى حدود غير مألوفة للأذن والذائقة، هي موسيقى خليط من الفكر والمعرفة المتقدمة، وأحابيل التكنولوجيا المرعبة وتأثيراتها المتشعبة على الذاكرة والوجدان أي مايطلق عليه الجانب الروحي والجمالي للفنون والذي يتعارض كلياً مع الجانب المادي والصنعة الأقرب الى الآلية الميكانيكية، بما يقلص من دون أدنى شك، من فرص وإمكانات الابداع الفني الذي يرتبط أصلاً بالأحاسيس والمشاعر لدى المتلقي أينما وجد. وهو ماقلّص أيضاً من إمكانات الإرتجال المبني بشكل كبير على خزين معرفي مستقر في الذاكرة والذهنية الموسيقية وليس في ذاكرة الحاسوب والوسائط المتعددة، التي تحمل بالرغم من ذلك، إيجابيات لايمكن للمرء من إنكارها والقفز عليها، في تاريخ الإبداع المعاصر وتوثيقه بأكثر من اسلوب وطريقة. يقول الباحث الدكتور “فؤاد زكريا” في كتابه الممتع “مع الموسيقى :ذكريات ودراسات” :”… هذه الاتجاهات المفرطة في غرابتها تقدم من النظريات لتبرير ذاتها أكثر مماتقدم من الإنتاج الفني ذاته. والحق أننا نستطيع أن نقول إن قيمة المدارس الفنية تتناسب – إلا في حالة قليلة – تناسباً عكسياً مع مقدار مايقدمه أصحابها لتبريرها من النظريات. ذلك لأن العمل الفني الرائع يبرر نفسه بنفسه ولايحتاج تبريره إلى الكثير من الدفاع والمرافعة. أما العمل الهزيل فهو الذي يحتاج حقاً إلى مدافعين ومحامين يقدمون إليه أساساً عقلياً يعوض شيئاً من تفاهته الفنية. ذلك لأن سلامة النظرية الجمالية التي يقوم عليها عمل فني ما، لاتضمن أبداً جمال هذا العمل ذاته، وإنما المعيار السليم الذي ينبغي الحكم على العمل الفني من خلاله هو معيار النقد الداخلي، والتذوق الجمالي من خلال تجربة فنية كاملة، لامن خلال التفكير النظري في الأسس التي قام عليها.”