الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
حين تقترب الشَّمس من لقائها بالأفقِ البحريّ إلى الجنوب الغربيّ، تحسّ بغبطةٍ، تتزايد في أحاسيسك؛ تستشعر ذلك من حالك المترقّبة تلك اللحظة كلّ عام؛ على الرغم من إعلانها بداية الفصل ضيّق الحيّز شحيح الأضواء، والمستثار قيدَ البرق وقصف الرعد والهبوب المجنون.. الشتاء، الذي يجود بما لا غنى عنه، ويجور كثيراً أحياناً! ويتضاعف الإحساس بغلظته، مع مضاعفة الحاجات إلى ما ليس في المتناول من دفءٍ وأمان؛ ومردّ غبطتك تلك، أنّ النهار سيعود إلى تمدّده المطّرد، والليل إلى انكماشه المنتظر..
وها هي الشمس في طريقها إلى الذروة الأخرى فوق الجبال في الشمال الغربيّ، في أبعد نقطة وأطول مسار منظور، لكنّ الأسى يتغلغل في أحاسيسك؛ لا لأنّه إعلان بداية للصيف الأرحب بأوقاته وصحوه وانفتاحه؛ ولطالما أحببت هذا فيه! لكنّ هناك ما ينغّصه من متطلّباتٍ لم تعد متوافرة؛ من هدوء، ووحدة، وتأمّل.. وما يشاكس من حشراتٍ دابّة أو محوّمة، وما يكاد يخرج المرء من جلده؛ لعدم القدرة على تأمين مبترد منعش، أو مقيل ظليل! ويؤدّي تقاصر النهار، وتزايد أوقات الظلمة، وإن كان ذلك يحدث بالتدريج، إلى ازدياد العكرِ والقتامة في النفسِ التي تكتئب، والأحياز التي تتضايق.
كيف تمكن المقارنة بين الحدّين الافتراضيّين والواقعيّين في آن، والحاصلين كلّ عام لامحالة؟! الوصول إلى الأدنى، والوصول إلى الأقصى! وبين الذروتين والحالين، كثير من أزمنة ومسافات، وظروف واحتمالات ومصادفات، وتنقّلات ووقائع ونتائج، ومناسبات ولقاءات وافتراقات..! هو الفرق بين وصول ووصول؛ وصولات لا تعدّ ولا تحصى، وارتدادات شعوريّة من الصعب رصدها إلّا بمسبارِ الأحاسيس والمشاعر، وجولات متفاوتة بين الجِدّ واللعب!
فبعد الوصول المغبط إلى الحياة؛ بالرغم من البكاء – غالباً- والعبوس والإغماض المحدود، هناك الوصول المؤسي إلى منتهاها، من دون مقاربة مبتغاها؛ وكم هو الفرق بين انتظار وليد وإطلالته، ومفارقة أليف، ما بعدها من لقاء!.
وفي كلّ وصالٍ وداع كامن بالمرصاد!..
ويبقى مسارٌ في اتّجاه مؤمّل، ووصول محتمل، مدعاةً للغبطة، وللفرحة المشرعة، وإن كانت تكمن في الخَلَد احتمالات التبدّل والتحوّل والغياب طوعاً أو قسراً، واردة كلّ حين؛ فكم من خطوٍ في اتّجاه خطر، على الرغم من اليسر المرصود، والسلاسة البادية! وكم من وميض خلّبيّ، وغيمٍ عاقر، برغم سواده، وضجيج مضيِّع! قد يحسب أحدنا أنّه يمضي إلى إنجاز وسعادة وانتشاء، ويلاقيه فشل وإحباط وأسى!.
وكم هو قارس الإحساس بقرب الوصول إلى نهاية، أيّة نهاية، على الرغم من أنّ للأقدار حساباتها الغامضة، التي تعاكس المنتظَر، وتفاجئ المنتظِرَ محاكمةً كالمذنِب، واصطياداً كالمحاصَر، وغرقاً محتوماً لمن يتخبّط في ماء عميق، ولا يعرف السباحة! وكم من فاكهة ملوّثة، ولذّة مسمومة، وشراعٍ كفن!
وكم من لقاء أثيم، وانهماك لئيم، وسعي بالنفس إلى كمين!
وكم من فرقٍ بين وصول إلى غربة، ووصول إلى الديار، وبين وصول إلى خلاص، ووقوع في المصيدة!
العصفور المنتشي بالوصول إلى ثمرةٍ ناضجة، قد يفاجئه وصول حبّات من الخردق الممزِّق، فيسقط على فرحة بشريّة؛ والمستسلم إلى نومٍ هانئ، قد يُفاجأ بكابوس ثقيل، أو يلتقي بوجع طارئ.. و…
كم من مظلوم يتمنّى إحقاق الحقّ، وكم من فرحٍ بصيده، وكم من آمل نجاة من يحبّون، وبقاءهم سالمين أطول فترة ممكنة!..
كم من جهةٍ تبدو مسكونة بالمخاطر، تكون في الواقع أكثر أماناً من حصن حصين! وكم من مرض فتّاك، قد ينتهي إلى موتٍ رحيم! وكم من ألمٍ مقيم، يصل بصاحبه إلى شفاء، ولو إلى حين!
لا شكّ أنّ الإحساس بالأمر أصعب من حصوله، وترقّب الخطر أقسى من أحداثه؛ والأمل بالخلاص الذي قد لا يأتي، يقلّل كثيراً من فصول المعاناة، والقنوط يعمّق الانكسار، ويراكم الخيبات..
وهكذا تمضي ضروب الحياة بين وصولٍ ووصول، بين إحساسٍ وشعور، وواقع وسواه!..
وإذا كانت الشّمس ستتابع التحرّك المرصود، والتنقّل المقدّر بين ذروة وذروة، إلى ما لا يعرف من أمد، فإنّك تتابع الانتقال في جهات ومسارات، ومحطّة وأخرى، وشعور بالانفراج أو بالضيق.. الشّمس قد لا تحسّ، ولا تأبه بما تقوم به؛ بالرغم من أنّها قد تتبارد، وتنطفئ، بعد أعمار وأجيال، ولا بما تسبّبه لدى الكائنات الحيّة المشرعة، أو الكامنة، والكائنات الجامدة، التي تخفي داخل استقرارها حركة، لا تقلّ نشاطاً وتأثيراً عن الشّمس.
وإذا كانت الشّمس، لم تختر مدارها، ولا الشموس الأخرى، فإنّك لا تختار فصول حياتك، وإن كنت تخطّط لكثير منها، وتعيش أحلامها وأوهامها، ودقائقها وتفاصيلها، وتتعرّض لمفرزاتها ومنعكساتها، من دون أن تكون على يقين من درجة صوابها، أو أمانها، أو درجة تأثيرها.. وقد يكون الخير في ما لم تختر، ولم تنظر إليه، أو تستشعر، وقد تغالب نفسك، وتراودها، أو تراودك.. وقد تحلم وتتوهّم، تشكو وتتظلّم، من دون أن يكون لديك ما يرضي، وما ترضاه؛ على الرغم من كونه- ربّما- هو ما تطلبه وتتمنّاه.
أنت لا تدور في حلقةٍ مفرغة؛ تحسب ذلك، ولن تصل إلى خاتمة منجّية؛ تعرف ذلك.. فماذا بقي لك؟! وماذا عليك؟! وكيف؟! ومتى؟! ولماذا؟!
أسئلة تهيمن على تقاسيم حياتك، ما بين أفراح الوصول وأحزانه!.
*كاتب وشاعرٌ وقاص
التاريخ: الثلاثاء15-6-2021
رقم العدد :1050