الثورة أون لاين- علي الأحمد:
الماضي الموسيقي وجمالياته، السؤال الهاجس لدى الموسيقي العربي في هذه الألفية الثالثة، هذا يؤكد من دون شك، على روح الوفاء والالتزام، والوعي المعرفي الذي يختزنه العديد من جيل الموسيقيين العرب الشباب، في محاولة العودة المنشودة الى هذا الماضي، بغية اكتشاف أوراقه المنسية، ونفض غبار الإهمال التي عليها، هي حالة خاصة ومائزة، من العبور الزمكاني، نحو استخلاص النتائج والعِبر في قراءة الظروف التاريخية والسياسية التي أنتجت هذا الكم الهائل من الأعمال الموسيقية والغنائية،وعلى جميع المستويات الدينية والوطنية والعاطفية، التي احتفظت برونقها ونضارتها الابداعية، بعد مرور كل هذه السنين الطويلة.
بالتأكيد لعب المناخ الثقافي الذي ساد آنذاك، دوراً كبيراً، في تكريس وتجذير هذا النتاج الإبداعي الذي قارب بعضه مفهوم القطع الممتازة، المعروف في الموسيقات الغربية الكلاسيكية وبعض موسيقات الشرق، ” الباكستان والهند وايران وتركيا وأذربيجان”، على سبيل المثال لا الحصر. هذه الموسيقات تشترك مع موسيقانا العربية بمفهوم المقام والارتجال وثراء تقاليدها الأصيلة، سواء تعلق الأمر بالموسيقى الفنية العالمة التي تعتمد على العلوم والنظريات المتقدمة في الكتابة والممارسة، أو على صعيد الموسيقات الشعبية التي تعتمد على الشفاهية والفطرة وتعبر بصدق عن حكمة الشعب وفلسفته في الحياة. هذا يقودنا الى القول أن أغلب فناني هذه البلاد استلهم الماضي في كثير من أعمالهم برؤية معاصرة منفتحة ووعي معرفي بضرورة مد الجسور الدائمة مع هذا الماضي بمايمتلك من ذخر إبداعي ناجز ومكتمل، من دون التقوقع فيه والسكون الى منجزه هذا، الذي كان حداثيا في وقته، وإلا لانطفأ وغاب في مجاهل الغيب والنسيان. نعم، هناك جيل مثقف وواع من جيل الشباب ممن لم تأخذهم التكنولوجيا وأحابيل المنظومات الغربية المؤدلجة، في الاندماج الكلي بمنظومتها الموسيقية التجارية، بل يحاول هؤلاء الفرسان خلق حالة ابداعية خاصة ومتميزة جداً، لتشكيل ذائقة جديدة ومغايرة، عبر كتابة موسيقى عربية جديدة، تعيد وصل ما انقطع مع هذا الماضي التليد، الذي لم يأخذ حقه في البحث والقراءة والإعلام، لأسباب عدة، من أهمها، المتغيرات العميقة التي ألّمت بالمجتمعات العربية ونزوعها القاصر نحو التغريب والغربنة، وبالتالي الابتعاد عن هذا الماضي والاندماج في ثقافة العصر التي ينحى أغلبها الى الاستهلاك العابر، وتكريس مجالات اللهو والاستمتاع ، على حساب الثقافة التنويرية التي تبني وترتقي بالانسان ذوقيا وجماليا، هؤلاء الفرسان الجدد الذين يحاربون وحدهم على أكثر من صعيد، وعلى المستويين الحياتي والابداعي، يكفي انهم محاصرون من قبل الشركات الإنتاجية والإعلامية، ويكفي أيضا محاولاتهم الحثيثة، لإقناع الأُذن والذائقة العربية بموسيقاهم البديلة، التي تحاول إقامة نوع من التوازن والاتزان مع منتوج هذه الشركات التي تنتج المئات من الأعمال الفقيرة، على المستويين الذوقي والجمالي، والتي تصرف عليها الملايين من دون جدوى أو ضرورة فنية، ومن حسن الحظ، أن صوت هؤلاء الشباب بات مسموعاً عبر بعض المنصات الإعلامية وعبر أمسيات وفعاليات متفرقة، يقدمون عبرها مايثلج الصدر بحق، موسيقى عربية حداثية ومعاصرة، لكنها تمتد بجذورها الى تلك الأزمنة القديمة التي أبدعت نهضة موسيقية عربية، حين كان هذا الفن الأصيل، يحمل فكراً ورسالة ثقافية، تحقق الكثير من المضامين الروحية والوجدانية للمتلقي العربي، الذي كان بدوره، يتمتع بذائقة جمالية عالية، وبأُذن خطيرة، تنبذ كل ماهو حسي ومبتذل، وهي عوامل رسمت ملامح هذه النهضة الموسيقية ووضعت موسيقانا العربية في معترك الحداثة العقلانية المنشودة، حداثة انطلقت من تربة وجذور هذا الفن، نحو تأصيل هذه الحداثة في متن النسيج النغمي العربي، اعتمادا على العلوم الغربية المتقدمة، وتطويعها في خدمة عناصر الإبداع المائزة في الهوية الموسيقية العربية، بوعي معرفي، من دون عقد نقص وتصاغر ودونية نحو الآخر.